صورة الحاكم عسكريا

TT

من لم يكن عسكريا في الحكام العرب جاء بخياطين من أوروبا صمموا له بذلة عسكرية وعليها شارات ونياشين ومعها عصا ماريشالية مثل رومل ومونتغمري وجوكوف، بطل «ستالينغراد». الصور الآتية من جنوب السودان (سابقا)، وصورة علي عبد الله صالح المؤلمة والمفزعة والمأساوية، وصور العقيد بكل الألوان وهواية جمع الأوسمة، وغياب صورة زين العابدين بن علي، وصور ميدان التحرير وصور حماه ودير الزور، وصور الجزائر، كل هذه الصور، للعرب الذين في جيلي، تعني شيئا واحدا: الكوارث التي حلت بالعالم العربي بسبب استيلاء العسكر على السلطة.

لم يكن يُخيل إلينا أنه سوف يأتي يوم يكون فيه الانفصال احتفالا. لكننا كنا جميعا ندرك أن بعض الوحدات أسوأ من الانفصال. وجميعنا كنا نعرف أن هذه نتيجة طبيعية لمجيء العسكريين بالدبابات والانقلابات. وجميعنا نعرف أن هذا ما يحدث عندما يجيء ضابط من ثكنة ويلغي الحياة السياسية والثقافية والعلمية ويقرر إلغاء التاريخ الهجري ووضع تقويم جديد للعالم أجمع فيه شهران، واحد يدعى الفاتح والثاني يدعى ناصر.

كان في مصر والعراق وسوريا وليبيا حياة سياسية ذات مستويات مقبولة جدا. يروي الوزير جان عبيد أنه كان في الخرطوم إلى جانب رئيس الوزراء محمد محجوب. كان رئيس الوزراء هو الذي يقود سيارته في وقت متأخر من الليل، وعندما وصل إلى الإشارة الضوئية توقف عند الضوء الأحمر. فقال له ضيفه: لكن المدينة خالية. فأجاب: علمنا المستعمر أن القانون وضع لليل والنهار معا!

عندما انفصلت سوريا عن مصر رأينا في ذلك عارا تاريخيا لا يمحى. وأطل العسكريون في كل مكان يرمون بالسياسيين في السجون ويرفعون شعارات العدل والمساواة، وخصوصا تحرير فلسطين. وراحوا يعلقون الرتب على أكتافهم والأوسمة على صدورهم. وكل حرب كانت لها هزيمة. وتحققت المساواة في نفي الشعوب وسجنها. ودخل الرؤساء السجون ولم يخرج بعضهم إلا في جنازة تخاف الناس حضورها.

هذا كان عصر العسكريين العرب. العصر الذي كان فيه أنور السادات يغير البزات العسكرية كما في عروض الأزياء. وعصر أزياء العقيد بكل لون من ألوان الأرض والسماء كأنما الأمم روضة أطفال وألبسة أعياد. وعصر المشير الذي لم يترك شخصية تاريخية في السودان إلا واضطهدها. وعصر الانقلاب وراء الانقلاب في سوريا. وعصر الضابط عبد الكريم قاسم الذي ذبح العراق فجاء الضابط عبد السلام عارف يتفرج على اغتياله.

عصر الإذاعات الفالتة والثكنات الفالتة والاقتصادات الفاشلة والسجون المكتظة وساحات الإعدام الرهيبة. تلك هي صور الحاكم العسكري، ومراحله، احتفالات في جوبا، وصورة علي صالح، وميادين مليئة بالناس تطالب بما بلغه البشر منذ عقود.