هل فشلت حركات التغيير العربية؟

TT

ما هو الوضع الراهن لحركات التغيير في الوطن العربي؟ ثمة ظواهر لا بد من ملاحظتها، تؤكد كلها أن التغيير لم يصل إلى أهدافه، وأن الصراع الداخلي حول هذا التغيير يحتدم، وأن التدخل الخارجي حول طبيعة هذا التغيير قد أصبح حقيقة معلنة.

وإذا كان التغيير قد بدأ من تونس، فإن إلقاء نظرة على التغيير في تونس أمر مفيد. ولا بد في هذه النظرة من أن نعود قليلا إلى الماضي. فتونس نالت استقلالها عن فرنسا عبر نضال حزب كان هو الحزب القائد في مرحلة تاريخية مديدة، وبقيادة زعيم هو الحبيب بورقيبة، الذي كان زعيما فعليا مسموع الكلمة، ومحبوبا من الناس. سيطر الحزب على كل مظاهر الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية، وتبنى نهج العلمانية، مواجها نفوذ جامعة الزيتونة صاحبة النهج الإسلامي الواضح، وهو ما أثار اعتراض قوى شعبية واسعة بقيت موجودة وكامنة. وأقام نظام الاستقلال في تونس علاقات صداقة عميقة مع الغرب الأوروبي.

اليوم لا يزال أبرز رجالات الحزب في واجهة الحياة السياسية، وهم الذين يعدون الناس بإنجاز التغييرات التي يطلبونها. ويشكل هذا الوضع علامة بارزة على صراع موضوعي يدور في تونس. ويصطدم رجال الحزب هؤلاء بالتيار الديني الذي لا يقبل العلمانية، كما يصطدمون بالتيارات اليسارية والوطنية التي ترغب في قطيعة سياسية مع الغرب. ويبرز من خلال هذا الوضع التيار الذي يعلن غضبه على بروز التيار الديني السياسي واتساع نفوذه، ويبرز أيضا التيار الليبرالي السياسي الذي يدعو إلى مواصلة علاقات السياسة مع الغرب، وإلى التزام مواقف هادئة في السياسة العربية، من نوع مواصلة التطبيع مع إسرائيل، في وقت تدعو فيه قوى أخرى إلى إنهاء هذا التطبيع ومقاومته. وخلاصة هذه المواجهات أن التغيير في تونس لم يحسم بعد. ذهب رجال، وبقي رجال، والصراع مستمر على السياسة الخارجية من دون حسم.

بعد تونس كان الحدث المصري، وبحكم طبيعة مصر ودورها، كان حدثها حارا جدا على الصعيد الداخلي، كما على الصعيد العربي والدولي. وقد تمت تنحية الرئيس حسني مبارك، وتولي المجلس العسكري الأعلى للسلطة، وتشكيل وزارة يرأسها شخص جاء من قلب حركة التغيير. وهنا كانت التحديات كبيرة، أولها أن تخرج مصر من حالة التبعية التي كانت قائمة مع الولايات المتحدة الأميركية، وثانيها أن تغير مصر علاقة التحالف القائمة مع طرف فلسطيني ضد آخر، وثالثها أن تعود مصر إلى دورها العربي القيادي، وعنوانه في هذه المرحلة مسؤوليتها في الحفاظ على أمن الخليج، من دون إثارة صراع إقليمي في المنطقة. وقد أطلقت مصر إشارات أولية في هذه الاتجاهات كلها، وهي إشارات دفعت بالقوى الداخلية، ودفعت بالقوى الدولية إلى التحرك، كل في الاتجاه الذي يحافظ على مصالحه، الأمر الذي جعل مصر في حالة صراع داخلي حاد، عبرت عنه حشود «ميدان التحرير» قبل أيام (الجمعة 8/7/2011)، التي رفعت شعار العمل من أجل تحقيق أهداف الثورة التي لم تتحقق بعد، حتى إنها رفعت شعار نزع السلطة من يد المجلس العسكري الأعلى.

وتتركز الأنظار الآن على ما يجري في سوريا، حيث يبرز حراك سياسي داخلي، يرافقه تدخل دولي خارجي، كان خفيا في البداية، وأصبح الآن معلنا وباسم الدولة الأميركية العظمى. وحيث يبرز أيضا حراك شعبي، يرافقه حراك عسكري مسلح، كان ينكره أصحابه في البداية، إلى أن أصبح حراكا علنيا ودمويا في جسر الشغور، ثم في منطقة إدلب وجبل الزاوية الذي يجاورها. وبقي هذا الوضع على حاله، معلنا وغامضا، إلى أن برز حدثان نقلا الوضع برمته إلى مرحلة مواجهة جديدة:

الحدث الأول: قيام فريق من المعارضين السوريين في الخارج، بالتعاون مع قوى صهيونية وإسرائيلية، ومن خلال مؤتمر علني عرف باسم «مؤتمر سان جرمان»، لبحث الأوضاع في سوريا، الأمر الذي أثار غضب سوريين آخرين معارضين رفضوا المشاركة في هذا المؤتمر، كما أثار غضب شباب عرب لم يحتملوا منهج التعاون مع صهاينة وإسرائيليين، فرفعوا صوت الاحتجاج وغادروا المؤتمر.

الحدث الثاني: وهو الأهم، تمثل في قيام السفير الأميركي في دمشق، ثم السفير الفرنسي، بالذهاب إلى مدينة حماه، والقيام علنا بالاتصال مع رموز معارضة في المدينة. وهو حدث شديد الخطورة لما ينطوي عليه من دلالات عملية متنوعة منها:

أولا: إن مجرد قيام سفير دولة أجنبية بالتحرك داخل دولة ما، مع طرف ضد آخر، هو تحرك ترفضه الأعراف الدبلوماسية، ويعبر بالنسبة إلى الولايات المتحدة الأميركية، عن تدخل خارجي مباشر في الأزمة بسوريا.

ثانيا: إن موعد زيارة السفير الأميركي إلى حماه، هو في حد ذاته أمر مهم جدا، فقد جاء موعد هذه الزيارة قبل يومين من موعد انطلاق الحوار بين النظام والمعارضة (يوم 10/7/2011)، وهو موعد ينطوي على تشجيع للمعارضين بأن يواصلوا معارضتهم، وألا يلتفتوا إلى دعوة المشاركة في الحوار.

ثالثا: إيحاء السفير الأميركي بأن الحوار لا يجب أن يتم في ظل المواجهة، وهي دعوة صريحة لمقاطعة الحوار، بعد أن كانت الولايات المتحدة تصر في الأيام السابقة، وتضغط، من أجل الإسراع في وضع الوعود السورية بالإصلاح موضع التنفيذ. وها هي تتراجع عن موقفها المعلن هذا، بينما تؤكد جميع الجهات المعنية بالحوار والإصلاح في سوريا، أنه سيكون حوارا منفتحا، وإصلاحا يمس كل ما يطالب به المعارضون، بما في ذلك المادة الثامنة من الدستور التي تتعلق بحزب البعث كحزب قائد للمجتمع والدولة، وبما في ذلك تعديل الدستور نفسه، وبما في ذلك مناقشة وإقرار مجموعة من القوانين التي تتعلق بتأسيس الأحزاب، وحرية الإعلام، والانتخابات، والحكم المحلي. ويطرح هذا سؤالا حول ما يريده السفير الأميركي، هل يريد الحوار والإصلاح، أم يريد باسم دولته شيئا آخر؟

وبينما يتواصل الصراع حول طبيعة التحرك والتغيير في هذه البلدان العربية الثلاثة، يشاهد العرب جميعا، الموقف الغربي الشامل الذي يقف مع إسرائيل ضد العالم أجمع، وضد تيار واسع من الشرفاء الأوروبيين، في المحاولات الإنسانية المبذولة من أجل فك الحصار عن غزة. ويجري في هذا السياق تعطيل انطلاق سفن «أسطول الحرية 2» من موانئ اليونان، كما يجري تنفيذ منع واعتقال وإبعاد المتضامنين الأوروبيين مع غزة من قبل دولة إسرائيل.

ويطرح هذا كله سؤالا حول ما يريده الأميركيون والغرب من المنطقة العربية. فهم يريدون التغيير، وهم يعملون ويضغطون من أجل منع التغيير من الوصول إلى أهدافه. وهم يريدون الحوار، وهم يعملون ويضغطون من أجل منع الحوار. أما حين يتعلق الأمر بإسرائيل، فإنهم يعملون على دعم إسرائيل في سياساتها العنصرية واللاإنسانية. فهل تستقيم سياسة الدول العظمى حسب هذا المنهج المتناقض؟!