في ذمة القضاء

TT

انتقل إلى رحمة ربه في دمشق هارب آخر من وجه الأنظمة العراقية البروفسور سعدون القشطيني، ابن الأستاذ والشاعر ناجي القشطيني، عن عمر ناهز الواحد والثمانين عاما قضاها في الخدمات الدبلوماسية والقضائية والأكاديمية. تخرج في كلية الحقوق وقدم عريضته للعمل في القضاء، المهنة التقليدية لآل القشطيني. نامت العريضة في مكتب الوزير حتى تسلم المنصب عبد الرسول الخالصي. ألقى نظرة على الأوراق المكدسة أمامه حتى رأى هذه العريضة. قال: سعدون القشطيني. ابن من هذا؟ قالوا له هذا ابن ناجي القشطيني. أخذ القلم وكتب: يعين فورا. وبعد أن وضع توقيعه على الأمر شرح لمدير «الذاتية» سر هذه السرعة في البت.

قال عندما ذهبت لدخول المدرسة الثانوية رآني المدير وأنا لابس جبة وعمامة. قال: يا ولدي الأوامر تقول لا يجوز دخول المدرسة بالدشداشة والطاقية أو الجبة والعمامة. عليك أن تأتي بالسترة وبنطلون. خرجت من المدرسة. ولكن أمي جاءت بي في اليوم التالي وقالت للمدير إنها لم تلد لزوجها أي ولد. ونذرت للرحمن إذا أكرمها بولد فستكرسه لخدمة الدين. وحقق لها الخالق نذرها فولدتني وسمتني عبد الرسول وألبستني الجبة والعمامة. قالت للمدير: لن أحنث بقسمي. إذا شئتم قبوله في المدرسة بهذا الزي فالشكر لكم. وإلا فسآخذه للملا وينحرم من التعليم. نظر المدير في وجهها وقال: عذرك مقبول. سأتحمل المسؤولية وأسمح له. وكان هذا المدير ناجي القشطيني.

بعد أشهر جاء المفتش الإنجليزي ولاحظ هذا الصبي المعمم بين الطلبة. قال: هذا خلاف التعليمات. فشرح له الأستاذ ناجي موضوعه. وعلى نفس الغرار احترم الإنجليزي قرار المدير واستمر التلميذ في الدراسة. تخرج في الثانوية ثم كلية الحقوق واستبدل بجبة الدين جبة المحامين وتدرج حتى أصبح وزيرا للعدل. ولم ينس كما ينسى الآخرون فضل الناس عليه فحقق لابن ذلك المدير حلمه في أن يتربع على كرسي القضاء.

ثم رحل سعدون إلى بريطانيا وعاد دكتورا في القانون. درس في كلية الحقوق ثم انتدبه صدام حسين مستشارا له. ما لبث حتى تمكن من الاستقالة لـ«أسباب مرضية». سألته: لماذا تركت المنصب؟ قال: هذا الرجل يجمعنا كمستشارين. لا نجلس حول الطاولة حتى ينهض ويتمشى في الغرفة يدور حولنا ويهذي علينا. لا يستشيرنا ولا يسألنا. المطلوب هو أن نسمع هذيانه. القشطينيون معروفون بقلة الصبر ومضاء اللسان. قال شعرت بالخطر أن أقاطعه يوما ما وأقول شيئا يودي بي.

عينوه سفيرا لدى نيجيريا. بادر فورا للاستقالة. سألته أيضا: يا ابن عمي، لماذا هذه العجلة؟ اقض بضعة أشهر في لاغوس ثم اسع للانتقال إلى مكان أفضل. قال: تريدني أن أموت؟ نيجيريا بلد مليء بجراثيم وحشرات ما أنزل الله بها من سلطان. أحسن أموت بعقارب خرنابات في وطني العراق من أن أموت بذبان أهل نيجيريا.

انتقل للتدريس في الجامعات الأردنية، ثم رحل إلى دمشق حيث توفاه الله، ضحية أخرى من ضحايا الشتات العراقي. يغمره الله برحمته الواسعة.