ماذا لو لم يحدث مع مبارك وبن علي ما حدث؟!

TT

لا تفسير لكل هذا التشبث بالسلطة وكل هذا العنف للاحتفاظ بالحكم من قبل الرئيس السوري بشار الأسد ومن قبل زميليه اللذين في عمر أبيه، علي عبد الله صالح ومعمر القذافي، إلا الخوف من مصير كمصير الرئيس التونسي السابق زين العابدين بن علي ومصير الرئيس المصري السابق أيضا حسني مبارك؛ فالأول، كما هو معروف، بادر، على غير ما كان متوقعا تحت ضغط تنامي الاحتجاجات الشعبية وتبني قطاعات من الجيش تلك الاحتجاجات، إلى الفرار بجلده وبزوجته دون أن يستقيل، والثاني فضل الاستقالة والتنحي على أمل أن يشفع له تاريخه وأن يُترك لقضاء ما تبقى من عمره في إجازة في شرم الشيخ التي هي إحدى إنجازاته والتي أصبحت لها كل هذه السمعة السياحية العالمية.

والتقدير، الذي يصل إلى حدود اليقين عند البعض، أنه لو لم يحصل مع مبارك ومع زين العابدين بن علي هذا الذي حصل، فإن معمر القذافي، الذي بدا في أول إطلالة إعلامية له كقط مذعور، لن يقاوم كل هذه المقاومة وأنه سيرضخ إلى الأمر الواقع ويترك لقب «الأخ قائد الثورة»، غير مأسوف عليه، لقاء ضمانات مؤكدة بطي صفحة الماضي وبترك ما ادخره من أموال من «شقاء» عمره!! له ولأولاده.

كان القذافي يتوقع بالتأكيد، حتى ظهر بإطلالته الإعلامية الأولى بتلك الصورة البائسة وهو يصرخ ويردد «زنقة.. زنقة»، أنه سيدخل قفص الاتهام وأنه سيمثل أمام محكمة التاريخ ليحاسب على كل ما قام به من اغتصاب السلطة في عام 1969 بصورة مشبوهة لا تزال تثير التساؤلات، إلى تصفية رفيقه عمر المحيشي بطريقة وحشية ومرعبة، إلى ملاحقة المعارضين الذين سماهم «الكلاب الضالة» في كل عواصم العالم ومدنه وتصفية كثيرين منهم على أيدي مرتزقة محترفين، إلى تغييب الإمام موسى الصدر ورفيقيه، إلى إسقاط طائرتي ركاب مدنيتين بكل ما فيهما، إلى نهب أموال الشعب الليبي وتبديدها في مشاريع تستجيب لنزواته السياسية في أفريقيا وفي غيرها.

كان القذافي يعرف هذا تمام المعرفة، ولذلك، ولأنه رأى أن فرار زين العابدين بن علي بجلده وبزوجته إلى الخارج لم يجنبه استحقاق إرساله غيابيا إلى قفص الاتهام ليمثل أمام محكمة التاريخ، وكذلك ولأنه شهد بنفسه أن تنحي الرئيس مبارك بشبه «طيبة» خاطر وإحالة نفسه إلى التقاعد لم يُنجِّه من كل هذه «البهدلات» وكل هذا الذي يتعرض له هو وعائلته، فإنه اتخذ، أي «الأخ قائد الثورة»، وضعية القط المذعور عندما يُحشر في زاوية حرجة ولا يعطَى أي مجال للهروب فيتحول إلى أسد هصور يقاتل حتى النهاية.

ربما أن القذافي بما فعله على مدى أكثر من أربعين عاما لا ينطبق عليه «العفو عند المقدرة» ولا يجوز أن يعامل بالطريقة التي عامل بها ذلك الرجل العظيم نيلسون مانديلا العنصريين البيض في جنوب أفريقيا الذين تمادوا في الإساءة إليه وإلى شعبه، أما حسني مبارك، فإنه شيء آخر، وإن تاريخه كأحد أبطال الجيش المصري يشفع له بأن يعامَل كمخطئ وليس كمجرم، خاصة أن معظم المصريين، إن ليس كلهم، يتفقون على أن هذا الرجل لم يكن دمويا ولا استبداديا، وإن ما تحمله في سنوات حكمه الأخيرة من انتقادات ومن شتائم له ولزوجته ولولديه يجب أن يؤخذ بعين الاعتبار، وبحيث أن لا يوضع لا مع صاحب «الجماهيرية العظمى» ولا مع زين العابدين بن علي أيضا، ولا مع علي عبد الله صالح، على رصيف واحد، فهو مختلف عن هؤلاء جميعا، ولا وجه شبه على الإطلاق بين بشار الأسد وبينه.

إن هذا بالنسبة للقذافي ولزين العابدين بن علي وأيضا لعلي عبد الله صالح، أما بالنسبة للرئيس بشار الأسد، فإنه شيء آخر، فهو يحكم باسم عائلة تحكم باسم طائفة أصابها ويصيبها ما أصاب الشعب السوري بأكثريته وأقلياته كلها، وهو يحكم باسم حزب أصبح بعد أن أكل نفسه مرارا وبعد أن أكلته الانقلابات الداخلية المتلاحقة وآخرها الحركة التصحيحية في عام 1970، مزرعة للمنتفعين الذين هم، حفاظا على مصالحهم وعلى رئيسهم، مستعدون لفعل أكثر مما شهدته المدن السورية من إراقة دماء ودمار خلال الأشهر الأربعة الماضية.

ربما بشار الأسد، لو أن الرئيس مبارك لم يتعرض لكل هذه «البهدلات» التي لا يزال يتعرض لها، ولو أنه غير محاط بهذه المجموعة التي تحيط به من أقاربه وأبناء أخواله وبعض أبناء أعمامه.. كان لديه استعداد للتنازل قبل أن تصل الأمور إلى ما وصلت إليه، لكن المشكلة أن هذه المجموعة التي تحيط به كانت قد حذرته منذ البداية، وهي لا تزال تحذره، من أن تنازله سيعرض الطائفة العلوية إلى إبادة تاريخية، وهذا غير صحيح بالطبع، وأنه سيجعله المسؤول تاريخيا عن القضاء على حزب البعث الذي تأسس في عام 1947 والذي حكم حتى الآن ثمانية وأربعين عاما، وأن عليه، بالتالي، أن لا يتردد وأن يفعل ما كان فعله والده الذي جعل مذبحة حماة مثلا لكل من راودته نفسه ليفعل ما حاول أبناؤها فعله في عام 1982.

وهنا، فإنه لا بد من الإشارة إلى أنه لا يوجد أي شبه بين سوريا وبين دول الثورات العربية والربيع العربي الأخرى إلا في الإطار العام؛ فالرئيس السوري بشار الأسد ليس لا القذافي ولا علي عبد الله صالح ولا زين العابدين بن علي، ولا أيضا حسني مبارك الذي يختلف عن هؤلاء كلهم في أنه أحد أبطال الجيش المصري وفي أنه لم يصل إلى الحكم بانقلاب عسكري وفي أنه يُجْمِعُ كل الذين عرفوه عن قرب أنه إنسان طيب وأنه انتهى هذه النهاية لأنه أحاط نفسه ببطانة سيئة وأنه بسبب مرضه خضع في سنوات عمره الأخيرة لنزوات عائلته، ثم وإن تجربة الشعب السوري بحكم عوامل متعددة وكثيرة تختلف عن تجربة شعوب هذه الدول الشقيقة كلها.

وكذلك، ونحن بصدد الحديث عن هذه المسألة، فإنه يجب أن لا نغفل الموقف الأميركي المثير للكثير من التساؤلات، الذي تعامل مع زين العابدين بن علي ومع حسني مبارك بطريقة مختلفة عن تعامله مع علي عبد الله صالح وبشار الأسد وحتى مع معمر القذافي؛ فالمعروف أن الولايات المتحدة بالنسبة للرئيسين السابقين التونسي والمصري كانت قد اتخذت موقف الخصم المباشر منذ اللحظة الأولى، وكان الرئيس باراك أوباما يظهر في اليوم أكثر من مرة ليقول إن التنازلات التي يقدمها مبارك غير كافية وإنه فقد شرعيته وإن عليه أن يتنحى على الفور، وهذا ما كان فعله مع زين العابدين بن علي وإن بطريقة أقل حزما وأقل حدة، وهذا كله أدى إلى رفض الرئيس السوري نصائح الذين نصحوه بأن يكثف التواصل مع شعبه في هذه المرحلة وأن لا يلجأ إلى الحلول الأمنية والعسكرية ودفعه إلى السعي لتكرار تجربة حماه منذ اللحظة الأولى، فكان كل هذا التصعيد الذي شمل كل مدن سوريا وقراها والذي قضى على أي إمكانية لعودة الأمور إلى ما كانت عليه قبل الخامس عشر من مارس (آذار) الماضي وفتح الأوضاع على شتى الاحتمالات ومن بينها احتمال الانقلاب العسكري الإنقاذي واحتمال الحرب الأهلية المدمرة.