«ربيع عربي» من منظور طهران

TT

في الوقت الذي تشهد فيه منطقة الشرق الأوسط التحول الأكثر ديناميكية منذ الحرب العالمية الأولى، نجد كافة الدول داخل المنطقة – أو التي لها دور في المنطقة – مضطرة لإعادة تقييم سياساتها وتحالفاتها.

إن الصراع الحاسم ليس بين «معتدلين» و«راديكاليين»، على الأقل إذا لم يكن تعريف «معتدل» هو دولة عربية متحالفة مع الولايات المتحدة وتعيش سلاما افتراضيا مع إسرائيل. وليس الصراع بين قوى إسلامية وعلمانية، فقد كان مطلب المحتجين بمختلف أنحاء المنطقة هو الديمقراطية والكرامة، وليس الإسلام والشريعة، وبدلا من الدين أو الآيديولوجية، ظهرت العوامل الجغرافية السياسية والسيطرة في المقدمة كعوامل محورية تشكل استجابة الحكومات تجاه اضطرابات إقليمية غير مسبوقة. وربما لا يوجد مكان يظهر ذلك أكثر من إيران. بالنسبة إلى الجمهورية الإسلامية، فإن التطورات الأخيرة هزت نظما سياسية قائمة (من بينها نظامها) ومنافسين على نفوذ إقليمي، وتأتي إسرائيل والسعودية والولايات المتحدة على جانب، بينما تأتي تركيا على الجانب الآخر، ويرى صناع قرار إيرانيون أن هذه الصدمة تغير سياق المنافسة، بدلا من أن تضع نهاية لها. كما أنها تطرح المزيد من التحديات والفرص.

وبصورة عامة، تهدف الاستراتيجية الجغرافية - السياسية الإيرانية إلى تعزيز تفوقها الإقليمي. وتعتمد استراتيجيتها على:

1- تحسين، أو على الأقل إدارة، علاقاتها مع دول الجوار ودول إسلامية هامة. وتأتي العلاقات مع تركيا والسعودية كعوامل هامة بالنسبة لوضع إيران الإقليمي ونفوذها داخل العراق ولبنان وفلسطين، وأماكن أخرى.

2- تعزيز التفوق الإقليمي الإيراني من خلال قدرات فنية محلية. ويعد البرنامج النووي الإيراني وتجارب الصواريخ وإطلاق قمر صناعي من أوجه هذا المسار الاستراتيجي.

3- الوقوف أمام الغرب، وعلى حد تعبير المرشد الأعلى آية الله علي خامنئي، فإن إيران تنوي «ألا تستسلم» لضغوط غربية.

وقد أظهرت سابقة تاريخية لإيران أن الغرب يميل إلى قبول قوى إقليمية عندما تكون هذه القوى كبيرة. وتعول الجمهورية الإسلامية على هذا القبول في نهاية المطاف. وتتمثل نقطة القوة الأساسية، من منظور إيراني، في التحلي بالصبر. ويعرف صانعو القرار داخل طهران أن تكلفة هذه الاستراتيجية كبيرة – فلا يمكن تجاهل العقوبات والعزلة – ولكن يعتقدون أنه يجب أن تصبح إيران قوة دولية مقبولة. وإذا أصر الغرب على جعل إيران ترضخ في قضايا مثيرة للجدل من خلال الضغوط، فستستمر الاستراتيجية الإيرانية المعتمدة على الصبر، مع الاعتقاد بأنها تستطيع تحقيق النجاح في النهاية. ومع ظهور المنافسة الإقليمية، نجد أن المشهد السياسي العربي المتغير برهن على دور الشارع العربي وقدرته في لعب دور حاسم في مستقبل المنطقة، وهو شيء لطالما تحدثت عنه طهران في معارضتها الوضع الراهن إقليميا. وعليه، ترى إيران في استمرار موجة الديمقراطية العربية تحديا لقوى الوضع الراهن التي تستفيد من نظام يقمع الشوارع، وقوى تزعم أنها تدعمها. وقد حددت طهران ذلك على أنها نقطة الخلاف الجديدة المحتملة داخل المنطقة، وأنها ستتعرض لضغط متزايد مع سعي قوى إقليمية إلى ملء فراغ يتركه وضع راهن أميركي إسرائيلي سعودي متراجع. في السابق، كان هذا التنافس يظهر في ساحات قوى الإكراه والإقناع. ولكن مع استمرار تغير سياسي عربي، تصبح خيارات قوة الإكراه غير الدبلوماسية داخل المنطقة واهية من دون تفاقم عدم استقرار بصورة خطيرة. وعلى ضوء ذلك، أصبحت قوة الإقناع – أي معركة العقول والقلوب – تحظى بأهمية متزايدة لدى صناع القرار في طهران.

ورغم أن إيران تتوق لحقبة ما بعد أميركا داخل الشرق الأوسط، فإن هذه اللحظة تطرح تحديا صعبا لطهران أكثر مما تتوقع. ورغم إبداء مرونة آيديولوجية كبيرة في الماضي، تعرف إيران أن قدرتها على التكيف مع وقائع جديدة على المدى الطويل محدودة. وسيُظهر شرق أوسط أكثر ديمقراطية أوجه قصور سياسية واقتصادية واجتماعية لدى إيران. وقد تستخدم منطقة أكثر استبدادا إيران الشيعية كذريعة لإجراءات قمعية في الداخل.

وعلى المدى القصير والمتوسط، تضع اضطرابات إقليمية خصوم إيران في موقف الدفاع، وتعزف على إحدى نقاط القوة الإيرانية: القدرة على استغلال عدم الاستقرار والانقسام. وبعد ثورة وثمانية أعوام من الحرب مع العراق وعزلة دولية نجد أن لدى الحكومة الإيرانية ميلا لاضطراب يمكن إدارته ويصيب خصومها بعجز. ورغم التعقيدات داخل سوريا، تسعى إيران للاستفادة من علاقات جديدة مع الشارع العربي والاستفادة من الوضع السعودي الإسرائيلي الأميركي الراهن المتراجع وما تقوم به تركيا في المقابل.

جهود توطيد إيران كقوة إقليمية، لم تفت في عضدها الاعتراضات الغربية، عززتها التحديات التي تواجه منافسيها، فقد تمكنت الجمهورية الإسلامية من تطوير، أو على الأقل إدارة، علاقاتها مع غالبية دول العالم الإسلامي، رغم استمرار المخاوف السعودية والبحرينية من القوة الشيعية. لم تجد إيران حافزا للانصياع للنهج القائم على الضغوط من أجل استعادة العلاقات، وعوضا عن ذلك تحاول إيران الاستفادة من الربيع العربي لإضفاء مزيد من المرونة على سعيها لمزيد من النفوذ الإقليمي، ومن خلال طرحها شرطين مسبقين لمحادثاتها النووية مع الغرب ـ رفع العقوبات والاعتراف بحق إيران في تخصيب اليورانيوم ـ على سبيل المثال، رفعت إيران من الرهانات. ويواجه الغرب في الوقت الراهن تحديا لا يملك القدرة للتعامل معه بسهولة، خاصة في وقت تنتشر فيه الاضطرابات الإقليمية.

الفوز بالشارع العربي سيتطلب من إيران ـ وعبر المد والهيمنة الإقليمية ـ عرض القوة الناعمة التي ترفع شعار الحريات السياسية والاقتصادية والاجتماعية. بيد أن استراتيجية الجمهورية الإسلامية تفاعلية في طبيعتها، وتقوم على الصبر، لأن قدرتها على التحرك على نطاق واسع محدودة. ونظرا لأن المخاوف الرئيسية لدى صناع القرار في طهران تتمثل في المحافظة على النظام، فهم يخشون من العواقب غير المتوقعة باتخاذ قرار استباقي في الداخل والخارج. بيد أن إيران تعلم أن نجاحها الإقليمي لا يتطلب معه أن ينعم خصومها بنفس المستوى من الثقة أو الاستقرار الذي تنعم به، ومن ثم تحاول الاستفادة بصورة أكبر من الاضطرابات الشعبية. وفي المستقبل المنظور، ربما يكون ذلك هو السيناريو الأكثر احتمالا.

* تريتا بارسي رئيس المجلس الوطني الأميركي الإيراني في واشنطن، ورضا المرعشي مدير الأبحاث في المجلس الوطني الأميركي الإيراني

* بالاتفاق مع «كايرو ريفيو»