حين تأكل الثورات أبناءها!

TT

يمكننا تسمية الفترة الحالية بأنها فترة الثورات العربية أو عصر الثورات العربية، حيث إن الشعوب العربية تحولت إلى صناعة الديمقراطية بعد أن ظلت عقودا طويلة لا تنتج سوى ديكتاتوريات بغيضة.

ولعل التضحيات الكبيرة التي قدمتها الشعوب العربية منذ انتفاضة تونس وحتى يومنا هذا جسيمة وكبيرة، ولكنها لم تكن تضحيات غير مبررة لكونها أزاحت نظما استبدادية لا يمكن إزاحتها بسهولة ودون تضحيات.

وهذه التضحيات لشرائح مختلفة من المجتمع جعلت البعض من المفكرين يطلق تسمية الثورة الشعبية، وهذا ما يجعلنا نفكر مليا عن نوع الثورات التي قامت بها الشعوب العربية.

الثورات ثلاثة أنواع: ثورة تحصد شهداءها وتبني بذكراهم تاريخها الجديد وتسير نحو المستقبل المشرق، وثورة تأكل أبناءها وتطحن رموزها فتضيع مستقبلها، وثورة تنتج الشهداء، وتمنح ثمارها للآخرين من الذين عادة ما يقفزون إلى هرم السلطة من جديد تحت مسميات عديدة وهويات جديدة وآيديولوجيات ظلوا يتنقلون فيما بينها حسب ما تقتضيه مصالحهم.

ووفق هذه التوصيفات، فإن ما يحدث الآن في مصر وتونس في مرحلة ما بعد إزاحة النظامين يمثل قمة القفز على الثورتين من خلال بروز تيارات وقوى وشخصيات تحاول جاهدة توظيف الحدث الثوري الشعبي لها من خلال ما تخطط له في جر الشارعين المصري والتونسي معا للتصادم والتناحر والتقاطع، فوجدنا في مصر مثلا التناحر الطائفي بين الأقباط والمسلمين، ورغم أن هذا التناحر ليس وليد اللحظة الحالية ولكن نجد أن إثارته في الوقت الحاضر لا تصب بالتأكيد في المصلحة الوطنية للمصريين، وحتى محاكمة رموز النظام السابق في مصر تحت وطأة ضغط الشارع الشعبي لا يمكن أن تكون هي المخرج الحقيقي للأزمة التي تعيشها مصر. والحال ينطبق أيضا على تونس التي تراجعت وارداتها الاقتصادية بنسبة 51 في المائة في الأشهر المنصرمة نتيجة هروب السياح والاستثمارات السياحية معا، فضلا عن تعطيل الكثير من المرافق العامة.

ومن يتابع سير الأحداث وتسلسلها الزمني في مصر ويقارنها بما كان سائدا في العراق بعد عام 2003، سيجد أن هنالك تشابها كبيرا جدا في التعامل مع التحولات الديمقراطية المطلوبة وما يصاحبها من تحولات اجتماعية واقتصادية، ولكن ما يختلف فيه العراق عن تونس ومصر يتمثل في توافر الموارد المالية نتيجة استمرار تدفق النفط مهما كانت كميته التي من شأنها أن تدعم أي تحول ديمقراطي منشود، وتوفر على الأقل موارد تشغيلية تؤمن رواتب الموظفين بشكل أو بآخر.

لهذا نجد اليوم أن شعبي تونس ومصر يعانيان من البطالة التي تتفاقم، وفرص العمل تتضاءل وميكانيزمات الاقتصاد تزداد هشاشة، ورأس المال يكشف عن جبنه اللامحدود عبر هروبه للخارج، وخاصة أن أحدث التقارير الاقتصادية تؤكد أن أكبر مشكلة تواجه اقتصاد تونس ومصر تتمثل في هروب رأس المال، والسياسة تتحول إلى خبز يومي يقتات منه المتحزبون، ويلفظه الفقراء رغم حاجتهم إليه، ويتعقد الوضع الأمني الهش الذي يهتز من «هبة ريح» أيا كان مصدرها حتى وإن كان إشاعة، وهذا ما يجعل المواطن هناك يعيش حالة ضبابية للمستقبل الذي ينتظره.

وتبقى الأسئلة وحدها تغذي مخيلة الشعب ولا تجد من يجيب عنها سواء من الحكومة الانتقالية في كلا البلدين أو من العسكر الذين تعهدوا بحماية الثورة أو من الأحزاب التي تتطلع بشراهة للقفز على السلطة أو حتى من الإعلام الذي تكاثر وتناسل إلى درجة أنه بات غير قادر على إثبات مرجعيته.. هل هو مع الثورة أم في منطقة اللاقرار؟

ويزداد الغموض غموضا آخر حين يتم تأجيل الانتخابات وكأن الغاية المرجوة إبقاء الحال على ما هو عليه حتى إشعار آخر.. هل هو الخوف من الديمقراطية، أم إتراف ضمني بأن الشعب غير مهيأ لأداء المهمة الديمقراطية، أم أن الأحزاب بكل مشاربها لم تستعد بعد لتجربة جديدة كهذه؟

وهل يعني هذا أن الثورات العربية تعيش مرحلة التخبط وقد تفشل في إدارة الدولة وفق مفاهيم الديمقراطية التي قامت من أجلها؟ لكن الهاجس الأكبر الذي ينتاب المواطن العربي يكمن في أن الأحزاب الموجودة في الساحة الآن سواء في مصر أو تونس هل قادرة على أن تكون أحزابا وطنية أم سنجدها تعزف على وتر الهويات الثانوية وقد تقود البلدين معا إلى حالة من التناحر الطائفي والجهوي والمناطقي من أجل أن تحقق هذه الأحزاب مصالحها الضيقة جدا التي لا تتعدى كرسيا ومقعدا في البرلمان والحكومة.. هذه المخاوف تؤرق أبناء تونس ومصر وهم يرون حالة الهستيريا والتشظي التي تعيشها النخب السياسية وحجم التقاطعات الكبيرة فيما بينها في مختلف المجالات.

ثم هنالك ما هو أخطر من هذا وذاك، ويتمثل كما قلنا في العزف على وتر الطائفية، لا سيما داخل الدين الواحد كما حصل بتصريح دكتور ومؤرخ تونسي ضد الرسول الأكرم - صلى الله عليه وسلم - وصحابته، هذا التصريح الذي لا يمكن لنا أن ندرجه ضمن حرية التعبير والرأي، أو الحق في التفكير، بقدر ما أنه يمثل عود كبريت في بلد قابل للاشتعال في أي لحظة، وبالتالي فإن تصريحات كهذه من شأنها أن تمهد الطريق لحرب أهلية وطوفان كبير تظل تأثيراته باقية لعقود قادمة.

* كاتب عراقي