تناولت (الثريد) بأصابعي الخمس

TT

لست من عشاق الأكل، أو المتحدثين عنه، إلى درجة أنه خطر على بالي يوما أن أجرب طريقة (سهل بن عبد الله الصوفي) الذي يقال عنه إنه اشترى يوما دبسا بدرهم، ودقيقا بدرهم، وسمنا بدرهمين، ثم مزج الجميع، جاعلا منها (360) حبة، أي (كبسولة)، وأصبح طعامه لعام كامل يتناول منه حبة واحدة كل يوم، ويقال: إنه كان لا يخرج منه كل مساء إلا دمنة واحدة مثل دمنة الخروف.

وزيادة مني في الجدية اتصلت بطبيب أعرفه وله مكانته المحترمة أستفتيه في ذلك، وأسأله: إذا كان هناك بالإمكان أن أفعل مثلما فعل سهل؟! طبعا ضحك من سؤالي وسألني: هل أنت بعقلك، هل أنت شارب شيئا؟! فقلت له: معاذ الله، بل بالعكس، فعقلي رغم ضيقي به يلازمني أينما توجهت، ومشروبي هو طوال حياتي لا يزيد عن ثلاثة (مشاريب): الماء الزلال + الشاي بالحليب + (البابونج) من دون سكر، فتوقف عن الضحك، ثم قال لي: أنصحك إذن أن تتناول يوميا فيتامين (omega - 3)، فشكرته معتقدا أنني بتناولي ذلك سوف أستغني عن تناول حبوب سهل، ولم أكذب خبرا، وذهبت إلى أقرب صيدلية واشتريت عشر علب كاملة من ذلك الفيتامين، أي ما يعادل (360) حبة، وامتنعت عن الطعام نهائيا، واعتقد أهل بيتي أنني بدأت كعادتي أصوم تضرعا، مع أنني في مطلع كل صباح أبلع حبة، وظللت على هذا المنوال المرهق يومين كاملين، بعدها بدأت تخور قواي و(تزغلل) عيناي، فما كان مني إلا أن أعاود الاتصال بذلك الطبيب مرة ثانية أشرح له حالتي المزرية التي أنا عليها، فاجتاحته نوبة عارمة من الضحك وقال لي وهو يكاد أن يشرق بضحكاته: أي عقل عندك تدعي أنه يلازمك أينما توجهت؟! اسمح لي أن أقول لك: إن عقلك عقل عصفور، إنني يا سيد عندما نصحت لك بذلك إنما كنت أمزح، ولم أتصور ولا واحدا في المائة أنك خفيف العقل وساذج إلى هذه الدرجة (!!). أغلقت سماعة التليفون وأنا مصاب بإحباط شديد وحموضة بالمعدة أشد، وقررت أن أعود لحياة الناس الطبيعية، وأول ما بدأت به شوربة (الكونسومية)، وأخذت أرتشفها، وبين كل رشفة ورشفة أفكر في ثقافة الأكل العربية.

وتذكرت طبق الطعام المفضل للخليفة (معاوية بن أبي سفيان) المكون من مخ العصافير، محشوة بمصارين البط، مقلية بزيت اللوز، وأخذت أردد الآية الكريمة: «وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ».

بعد ذكر الرحمن، هدأت نفسي قليلا وخطر في بالي أول ما خطر (الثريد)، فاتصلت (بأبو أمجد)، وهو حجة بالتراث وبكل ما يتعلق بالأكل، أسأله عن كيفية عمل (الثريد)، وقبل أن يصفها لي قال: هل تعلم أن سيدنا إبراهيم الخليل كان هو أول من ثرد وأطعم المساكين؟! وأن الرسول (صلى الله عليه وسلم) هو من قال: إن مكانة عائشة بين النساء كمكانة الثريد من الأطعمة؟! وبعدها بدأ يرتب لي طريقة تحضيره قائلا: إنه يتصف ببساطة إعداده، وكل ما عليك هو أن تغلي اللحم في الماء مع شيء من الخضراوات والبقول أو من دونها، وعند نضوج اللحم تصب المحتويات فوق قطع من الخبز، ثم تسمي بالله وتبدأ بيمينك وأصابعك من دون أي شوكة أو سكين، عندها تذكرت قول (يوسف بن عمر): أعظموا الثريد، فإنه لقمة الدرداء، فقد يحضر طعامكم الشيخ الذي ذهب فمه، والطفل الذي لم ينبت فمه، فأطعموه فإنه أنجح وأشفى للقرم. ولا أدري إلى الآن ما هو القرم؟! ولكنه قد يكون القرمان، أي الجائع.

لهذا، وبعد أن أصابني من الجوع ما أصابني طبخت الثريد، وتناولته بأصابعي الخمس.

[email protected]