مأزق القاضي مع حسني مبارك

TT

تبدأ صباح بعد غد، أولى جلسات محاكمة الرئيس السابق حسني مبارك، في إحدى قاعات أرض المعارض، بمدينة نصر، شرق القاهرة، ولا بد أن الذين يتابعون أصداء هذه المحاكمة، قبل انعقادها، يشعرون بأنهم إزاء مجتمع فقد عقله في العاصمة المصرية، وخارجها، على امتداد البلد كله!

إنني أكتب هذه السطور صباح الجمعة (29 يوليو) التي أطلقت عليها القوى السياسية المختلفة مسمى «جمعة لم الشمل».. ولا أحد يعرف إلى أين يمكن أن تنتهي المليونية التي خرجت في ميدان التحرير، تحت هذا المسمى، أو هذا الشعار، صباح هذا اليوم.. ولكن ما أعرفه، أن أحد مطالب الثوار في الميدان الشهير، هو المحاكمة السريعة للرئيس السابق، وأن من بين مطالبهم أيضا، سرعة استرداد الأموال المنهوبة التي جرى إخراجها من البلد، على يد مبارك أو غيره من أركان نظامه الحاكم، على مدى السنوات التي حكم فيها.

ولو أن أحدا دقق النظر، في هذين المطلبين، فسوف يكتشف بسهولة أن ثوار التحرير يطلبون الشيء ونقيضه في الوقت ذاته، ولا يدركون أن المحاكمة السريعة سوف تؤدي بالضرورة، إلى عدم استرداد جنيه واحد، من أي أموال قد تكون موجودة في الخارج، بغير حق.

تعالوا نفترض أن الرئيس السابق يملك - مثلا - مائة مليون دولار خارج حدود بلده، وأن هذه المائة مليون مودعة في أحد البنوك العالمية، وأنه كان قد حصل عليها من دون وجه حق، وأن المطلوب استردادها إلى الخزانة العامة للدولة، وأن الجهات المعنية في مصر تسعى إلى تحقيق هذا الغرض.

إلى هنا يبدو الموضوع جميلا جدا، ليبدأ، بعد ذلك، كلام ليس جميلا بالمرة، لا لشيء، إلا لأن استرداد كل دولار من هذا المبلغ المفترض، يقتضي أن يخضع مبارك لمحاكمة «عادلة».. وحين أضع كلمة عادلة بين قوسين، فالهدف هو أن ننتبه إلى أن المحاكمة العادلة لها مواصفات لا جدال فيها، وهي - على وجه التحديد - ألا تكون محاكمة سريعة، كما يطلب الثوار، ولا بالطبع بطيئة، وإنما محاكمة طبيعية تتوافر لها الظروف العادية التي يجب أن تتوافر لأي محاكمة.

هذا شرط.. والشرط الثاني أن تتاح للمتهم فيها الفرصة الكاملة للدفاع عن نفسه، من خلاله هو، أو من خلال «محام» ينتدبه، أو تنتدبه له المحكمة، وإلا فقدت المحاكمة أحد أهم أركانها، أما الشرط الثالث المطلوب، دون فصال أو مساومة، لاسترداد كل دولار من المبلغ المفترض إياه، فهو أن يصدر حكم نهائي بالإدانة، ومعنى كلمة نهائي هنا، هو أن يكون الحكم مؤيدا من محكمة النقض ذاتها، التي تمثل أعلى درجات التقاضي في البلد، فالحكم الذي تؤيده هذه المحكمة، يصبح نهائيا، لا استئناف فيه، ولا طعن، ولا إبرام.

كيف إذن - بالعقل والمنطق والبديهة، وليس بالقانون - نطالب بمحاكمة سريعة، لا تتوافر فيها كل هذه المواصفات، أو بعضها على الأقل، ثم نطلب في الوقت نفسه، استرداد أموال نفترض أنها موجودة في الخارج، ونسعى إلى المجيء بها؟!

وإذا كان الثوار معذورين، في أن يكون مطلبهم الأساسي، هو المحاكمة السريعة لمبارك بحكم عوامل كثيرة، ليس أولها أن بعضهم فقد أحباء له، في أثناء الثورة على نظام حكم مبارك، أول هذا العام، ولا آخرها أنهم مندفعون ببراءة ثورية مبررة، فإن غير المفهوم حقا، والمحزن فعلا، أن الإعلام المصري، في أغلبه، يتبنى مثل هذا المطلب، وينشره، ويكرره، دون وعي، ودون أن ينبه أصحابه، إلى أنه، كمطلب، يهدم المحاكمة من أساسها، ويجعل الطعن عليها، في المستقبل، مسألة سهلة للغاية، وفي مقدور أي دارس مبتدئ للقانون!

الإعلام في مصر، يساير الناس، وينافقهم، ويتبعهم، ويمشي خلفهم، ويتخلف عنهم، ولا يحاول - ولو مرة واحدة - أن يضيء لهم الطريق، إلى حيث يجب أن تكون خطواتهم.. وتلك مأساة كبرى، لا تزال جارية، وليس من المعلوم إلى أي طريق يمكن أن يقاد البلد، بهذه الطريقة، وبهذا الفكر، وبهذا الأسلوب الأعمى.. فجزء كبير من مأساة مصر - اليوم - يكمن في مستوى أداء إعلامها تحديدا، وليس في أي شيء آخر.. وما هو أشد أسفا من ذلك كله، أن أي متابع، للتجهيزات التي كانت ولا تزال تجري، استعدادا لانعقاد المحاكمة، سوف يلاحظ أن الناس تترقب المحاكمة، وكأنها «فرجة» سوف يشاهدون خلالها عرضا على مسرح، وليس محاكمة لمتهم بريء إلى أن تثبت إدانته، وتلك قاعدة راسخة تنطبق على مبارك وعلى غيره طبعا، فكل متهم، أيا كان اسمه، أو وضعه، أو مستواه، وأيا كان حجم تهمته، إنما هو بريء تماما، إلى أن تثبت الإدانة في حقه، نهائيا، من محكمة النقض، وليس من ما سواها.

المحاكمة تحولت، بالطريقة التي يجري بها الإعداد لها، حاليا، إلى «فرجة» حقيقية، بمعنى أن كل واحد من متابعيها، يتطلع إلى أن يتفرج على مبارك وهو في القفص، من أجل الفرجة في حد ذاتها، وليس مهما بعد ذلك، أن يدان الرجل، كمتهم، أو أن تتم تبرئته. لا، ليس هذا مهما، ولا مطروحا، من خلال الشواهد التي نطالعها كل يوم.

آسف.. لأني أريد أن أستدرك عند هذه النقطة، لأقول، إن القاضي الذي سوف يكون عليه نظر القضية، ثم الحكم فيها، إنما هو في «مأزق» حقيقي، لا أظن أن قاضيا آخر قد سبقه إلى مأزق من هذا النوع، ولا على هذا المستوى..

أما السبب، فهو أن الذين ينتظرون المحاكمة، ثم يريدون متابعتها، إنما يفعلون ذلك، وهم على يقين بأن المتهم مدان مدان لا شك في ذلك، ولذلك، لم يكن غريبا، أن تخرج دعوات بين وقت وآخر، يطالب فيها أصحابها، بإعدام حسني مبارك.. هكذا مرة واحدة.. دون أن يستوعب أصحاب مثل هذه الدعوات، أن إعدام أي شخص، وليس مبارك وحده، يجب أن يتم بعد تحقق من التهمة، فتحقيق فيها، فمحاكمة لصحابها، فإدانة له، ليأتي الإعدام بعد ذلك على أساس.. أما أن نقفز فوق هذه الحلقات الأربع، لنطالب بالإعدام، ولا يكلف الإعلام خاطره، ليقول للناس، إن مطلبا كهذا، لا يجوز، ولا يليق، فهذا معناه، أننا، كما قلت، إزاء مجتمع فقد عقله تماما.

السؤال الذي يشغلني طوال الوقت هو: لو وجد القاضي المكلف بالنظر في القضية، أن المتهم الماثل أمامه، بريء من تهمته، وهو احتمال قائم بالطبع، بقدر ما إن احتمال الإدانة قائم أيضا.. ماذا سوف يفعل القاضي وقتها؟! هل سوف يحكم ببراءة المتهم حسني مبارك فيثور الناس في وجهه، أم يحكم بما يخالف ضميره، والأوراق التي أمامه، ويظلم متهما، من أجل نفاق الرأي العام؟!.. لقد قيل دائما إن إفلات مائة مجرم من العقاب، خير من إدانة بريء واحد..

ليس مهما إدانة أو تبرئة مبارك فهذه مسألة تخصه، ولكن الأهم، وما يخصنا جميعا، أن تكون العدالة، كمبدأ، حاضرة في كل لحظة من لحظات المحاكمة، وأن يكون هذا المبدأ قرآنا أمام القاضي!