هل اتفاق رفع سقف الديون كافٍ لمنع كارثة مالية؟

TT

ثمة رأي سائد في وول ستريت وبين الكثير من المنظمين الماليين والمشرعين المخضرمين، وهو أنه كانت ستحدث كارثة ما لم تتمكن الولايات المتحدة من رفع سقف ديونها في غضون الأيام القليلة المقبلة، ولكن السؤال الآن هو: هل حقا ستقع الكارثة؟

هذا هو السؤال الذي يدور على ألسنة الناس بعدما تضاءلت السيولة النقدية في البلاد ووصل المشرعون إلى طريق مسدود قبل ظهور إطار التسوية يوم السبت، الذي توج بالاتفاق الذي أعلنه أوباما مساء الأحد. وكان الرئيس أوباما وزعماء الكونغرس قد اجتمعوا لمدة إحدى عشرة ساعة بهدف التوصل إلى اتفاق، ولديهم أمل في تمرير هذا الاتفاق في مجلسي النواب والشيوخ خلال الأسبوع الحالي.

ويفضل معظم الناس عدم معرفة المخاطر ويحدوهم الأمل في أن يتمكن المشرعون من تحويل هذا الإطار إلى مشروع قانون من شأنه أن يرفع سقف الدين، ولكن خلال الأيام الأخيرة كان هناك اهتمام متزايد بتصريحات قلة من خبراء الاقتصاد والممولين الذين يؤكدون على أن كل شيء سيكون على ما يرام، حتى إذا لم يتم الالتزام بالموعد النهائي، وحتى - حسب عدد قليل منهم - إذا لم يتم الوفاء بالمدفوعات لحملة السندات في البلاد.

ويؤكد هؤلاء الاقتصاديون والتجار أن المشرعين بحاجة إلى التركيز على الصحة المالية للبلاد على المدى الطويل، ويشيرون إلى أمثلة تاريخية تنطوي على حكومات محلية ووطنية تخلفت عن بعض الالتزامات، وقالوا إن الألم قصير الأجل الذي يحدث نتيجة محاولة الاقتراض مرة أخرى يزول بمرور الوقت. وفي حالة الولايات المتحدة الآن يقول الاقتصاديون إن مثل هذا الألم قصير الأجل سيكون مفيدا لو ساعد المشرعين على تحقيق خطة شاملة لتمويل مستقبل البلاد، بما في ذلك البرامج المكلفة مثل برنامج الضمان الاجتماعي، دون حدوث مثل هذا العجز الكبير. ويقول عدد قليل من الخبراء إن البلاد ستكون أفضل حالا إذا ما تخلصت من بعض أو كل الديون، لأن ذلك قد يعني عدم زيادة الضرائب على الأجيال القادمة من العمال.

وقال كريستوفر والن، الذي يكتب رسالة إخبارية بعنوان محلل المخاطر المؤسسية: «لدينا فرصة الآن للمضي قدما، ولكننا قد لا نفعل ذلك في غضون سنوات قليلة. إذا كانت الديمقراطية تتطلب مزيدا من الوقت، فلتأخذ مزيدا من الوقت. لا أعتقد أن عدم الوفاء بالدين سيشكل أزمة كبيرة كما يقول البعض، لأن السؤال سيكون: إلى أين سيذهب المستثمرون؟».

في الواقع يعتقد معظم المستثمرين أن لديهم أماكن أكثر أمنا لوضع النقود من وضعها في سندات الخزانة التي تصدرها الولايات المتحدة لاقتراض المال. وفي الآونة الأخيرة، حيث فشل المشرعون يوما بعد الآخر في التوصل إلى اتفاق، تكالب المستثمرون على سندات الخزانة طويلة الأجل ودفعوا المزيد من أجل شرائها، مما أدى إلى خفض تكاليف الاقتراض في الولايات المتحدة. وقد يكون ذلك بسبب ضعف البيانات الاقتصادية التي تتسبب في حدوث بعض المشكلات للأسهم، ولكنه يؤكد أيضا على الحالة الفريدة التي تتمتع بها سندات الخزانة كملاذ عالمي آمن وكعملة في المعاملات المالية التي لا تحصى.

ولا أحد يعرف حقا ما الذي سيحدث إذا فشلت الولايات المتحدة في سداد ديونها، وقد يحدث العجز على السداد من خلال عدة أشكال، من بينها التأخر في دفع الفائدة، أو إعادة التفاوض على المستوى المطلق للدين، أو الفشل في سداد مدفوعات بعض الالتزامات الحكومية الأخرى. وقد قامت شخصيات بارزة في وول ستريت وواشنطن بمناقشة هذه الفكرة مثل ستانلي دروكينميلر، وهو مستثمر من القطاع الخاص قضى سنوات طويلة في العمل مع الملياردير جورج سوروس. وفي شهر مايو (أيار) قال الرئيس السابق بيل كلينتون في إحدى الندوات: «قد لا تكون هناك كارثة» إذا فشلت البلاد في سداد ديونها لبضعة أيام.

من الصعب جدا أن تقوم بفصل مقترحات قابلة للتطبيق عن المواقف السياسية في مناقشة الموازنة، وقد يكون هناك مبالغة في التحذيرات التي يطلقها كلا الجانبين. ولا توجد هناك أمثلة تاريخية يمكن الاعتماد عليها لعقد مقارنة مباشرة. وقد حث الكثير من المشرعين الجمهوريين أقرانهم على اتخاذ مزيد من الوقت لإجراء محادثات بشأن قضية الديون. وقد عارضت إدارة أوباما، التي أعلنت منذ أشهر أن يوم الثلاثاء سيكون هو الموعد النهائي، هذا الاتجاه بقوة. ولا يزال هناك نقاش بين المؤرخين حول ما الذي كان يمكن حدوثه في عام 2008 إذا لم تكن هناك خطة إنقاذ للنظام المصرفي. وكان كثيرون في واشنطن ووول ستريت قد أكدوا أن تدخل الحكومة قد منع وقوع كارثة.

والسؤال الآن هو: هل يجب الحفاظ على سندات الخزانة الأميركية، التي تعد أداة السلطة المالية في البلاد، بأي ثمن، كما يقول معظم الاقتصاديين؟

وخلال الأسبوع الماضي أشار استطلاع للرأي أجراه مركز بيو للأبحاث إلى أن أقل من ربع الأميركيين يعتقدون أنه يتعين على المشرعين عدم التوصل إلى حل وسط بهدف التوصل إلى اتفاق سريع، ولكن بدلا من ذلك يجب عليهم «الالتزام بمبادئهم، حتى لو كان ذلك يعني أن الحكومة ستتخلف عن سداد الديون». وكانت نسبة الذين فضلوا عدم السداد على عدم التوصل على حل وسط سريع أعلى بين الجمهوريين، حيث وصلت النسبة إلى 38 في المائة.

وقال نيال فيرغسون، وهو مؤرخ بجامعة هارفارد: «مهلا، انتظروا ثانية، لا ينبغي لنا أن نتحدث عن الولايات المتحدة في نفس الوقت الذي نتحدث فيه عن الأرجنتين وروسيا»، وقد تخلفت كل منها عن سداد ديونها السيادية في نهاية القرن الماضي. وقال تايلر كوين، وهو خبير اقتصادي في جامعة جورج مايسون: «إذا استمر هذا المأزق حتى تمام الساعة الثامنة من مساء يوم الأحد القادم فستحدث أشياء سيئة. يجب رفع سقف الدين بأي وسيلة ممكنة في هذه المرحلة لكي نتجنب وقوع الكارثة». وفي هذا الشأن قال جيف هاميل، وهو اقتصادي وأستاذ بجامعة سان خوسيه، إنه «قد فات الأوان». ومن الجدير بالذكر أن هاميل يتوقع منذ عام 1993 أن تتخلف الولايات المتحدة عن سداد ديونها، وتستند وجهة نظره على الالتزامات غير الممولة التي اتخذتها الحكومة في ما يتعلق بالاستحقاقات المستقبلية، وأضاف أن الولايات المتحدة لن تكون قادرة على دفع هذه الديون، ولذلك سيكون من الأفضل لها أن تعترف بهذا الفشل الآن.

وقال هاميل: «إذا كان لي أن أختار فسوف أمتنع عن دفع الدين كله وأستخدم أيا من الأصول المتاحة لدفع الضمان الاجتماعي».

وقد اعترف هاميل بأن وجهة نظره تعد «متطرفة جدا»، ولكنه قال إنه يعتقد أنه من الأفضل أن يتم التركيز على توفير المال للمستفيدين من الضمان الاجتماعي على المدى الطويل، وذلك لأنهم أجبروا على وضع الأموال في السوق، على النقيض من الأطراف التي قامت بشراء سندات الخزانة، والتي تعد استثمارا قبل كل شيء.

في الأربعينات من القرن قبل الماضي، حسب تصريحات هاميل، تعثرت عدة ولايات مثل لويزيانا وميريلاند عن سداد ديونها، ونجح كثير منهم في اجتياز الإجراءات الدستورية المتعلقة بديونها، وهو ما مكنها من عدم الوصول إلى مستويات الديون من هذا النوع منذ ذلك الحين. وقد اعترف هاميل بأن عدم الوفاء بسداد الدين من شأنه أن يجعل من الصعب على الولايات المتحدة اقتراض المال، غير أنه لا يعتقد أن هذا أمر سيئ، وأضاف: «يمكنك أن تفكر في عدم سداد الدين كتعديل متوازن في الميزانية».

وبالإضافة إلى ذلك قال هاميل إن تحرير الولايات المتحدة من الدين من شأنه أن «يزيد من قيمة رأس المال البشري»، لأن الناس لن تخضع لمزيد من الضرائب في المستقبل لتسديد الديون، ولذا سيتمكنون من الحفاظ على الكثير من مكاسبهم.

وهناك شيء من المستحيل توقعه، وهو حجم هذه المكاسب المحتملة بالمقارنة بجميع الأضرار الاقتصادية التي سوف تعاني منها الدولة في حالة عدم رغبة الأسواق المالية في إقراض الولايات المتحدة، كما أنه من الصعب أن نعرف التأثير السلبي الذي سيحدث على الفور. وقد قامت شركات كثيرة بحفظ مدخراتها على شكل سندات خزانة، ومن الممكن أن تتوقف أعمالها إذا ما فقدت تلك السندات الكثير من قيمتها، كما يمكن أن تتجمد الأسواق المالية التي تستخدم سندات الخزانة لدعم معاملاتها. ويقول كثير من الناس إن الأسواق قد أصبحت أكثر عرضة لحالات الذعر الآن بالمقارنة بما كانت عليه في العقود الماضية، كما لم يعد أمام البنوك المركزية الكثير من الأدوات التي يمكنها استخدامها إذا ما عانينا من حالة أخرى من الذعر بعد وقت قريب من الأزمة المالية.

وقد قام نقاد السوق بالفعل بتغيير وجهات نظرهم بشأن بعض أنواع التخلف عن سداد الدين، ففي حين قال الكثير منهم على مدار أسابيع كثيرة إن خفض السندات الأميركية من جانب وكالات التصنيف سيكون شيئا سيئا، بدأت السوق تتقبل هذا على أنه شيء محتمل، وأصبح من غير الواضح ما إذا كانت مثل هذه النتيجة ستضر بسندات الخزانة أم لا. وقد أشارت وكالة التصنيف العالمية «ستاندرد آند بورز» إلى أن عدم وجود خطة حقيقية لخفض العجز يمكن أن يؤدي إلى زيادة العجز بحلول منتصف شهر أكتوبر (تشرين الأول). وأعلنت مؤسسة «موديز» يوم الجمعة أنها سوف تعطي الحكومة المزيد من الوقت حتى تعمل على وضع خطة للميزانية أوسع نطاقا، لكنها حذرت من أن عدم دفع الديون سيؤدي إلى مزيد من العجز في الميزانية.

وحتى لو أبقت الحكومة على ديونها الحالية، فقد تصبح الديون أقل قيمة على المدى الطويل بالنسبة للمستثمرين لأن الكثير من المستثمرين يتوقعون أن تقل قيمة الدولار، وهو ما من شأنه أن يعمل على تخفيض قيمة السندات الأميركية للأجانب. وعلى هذا الأساس فإن القوة المالية للبلاد قد بدأت تتلاشى بالفعل.

* خدمة «نيويورك تايمز»