تركيا وحلم العثمانية الجديدة

TT

كيف تشكل الدولة سياساتها الخارجية؟ الإجابة النموذجية لهذا السؤال هي أن سياسة الدولة الخارجية تعد استمرارا لسياساتها الداخلية. وبعبارة أخرى، فإن الدولة التي تعتمد على حكم القانون داخليا لا يمكنها التصرف كدولة مارقة في الخارج.

ورغم ذلك، فإن هناك استثناءات لكل قاعدة. وتعد تركيا أحد هذه الاستثناءات. خلال الأشهر الستة الماضية كانت تركيا أكثر الدول الإقليمية نشاطا في دعمها لـ«الربيع العربي»، حيث قامت باستضافة اجتماعين مهمين للأحزاب السورية المعارضة ومؤتمر لمجموعة التنسيق بخصوص ليبيا. وكانت تركيا أول قوة إقليمية تقوم بدعم الثورات في تونس ومصر منذ اندلاعها. وأسهمت في جهود منظمة حلف شمال الأطلسي لتنفيذ قرار الأمم المتحدة في ليبيا. ومن خلال تركيا وصل معارضو النظام الخميني في إيران إلى ملاذ آمن. وخلال العامين الماضيين فر من إيران ما لا يقل عن 600 شخص من معارضي النظام الخميني، من ضمنهم الكثير من المسؤولين البارزين السابقين.

وفي إطار التعاون الوثيق بين تركيا والولايات المتحدة، أصبحت تركيا حليفا للقوى التي تروج للإصلاح في المنطقة.

لكن المشكلة تكمن في أنه بينما تقوم تركيا بدعم اتجاه من الممكن أن يؤدي إلى إرساء الديمقراطية في دول كثيرة بالمنطقة، تندفع قياداتها الداخلية في الاتجاه المعاكس تماما.

وتحت قيادة أردوغان، أصبحت تركيا لاعبا انتهازيا بعد أن كانت تفضل الأوضاع الراهنة. ترى تركيا فراغا على ضوء التراجع الاستراتيجي للولايات المتحدة تحت رئاسة أوباما، وتأمل أن تملأ هذا الفراغ بمزيج من الدبلوماسية والتجارة والقوة العسكرية. وغني عن الذكر أن تركيا لا تريد أن تقوم إيران، القوة المغامرة، بملء هذا الفراغ. ومع السقوط الحتمي لنظام الأسد في دمشق، تخسر طهران دولة تابعة مهمة. كما أن التغيير في سوريا يضع نهاية لحزب الله في لبنان.

ومنذ عشر سنوات، كانت هناك تكهنات بأن لدى رجب طيب أردوغان، الرجل الذي قاد الإسلاميين في تركيا نحو السلطة، أجندة سرية تهدف إلى إيجاد دولة دينية بقبعة بدلا من العمامة.

أما وقد أتيحت لي فرصة الاستماع إلى أردوغان في عدد من المناسبات، فأنا لم أؤمن بتلك النظرية أبدا. بل أرى أردوغان نسخة تركية من فلاديمير بوتين، القيصر الروسي غير المتوج. وكما يستخدم بوتين القومية الروسية في سياسته الرامية إلى إحياء الإمبراطورية السوفياتية، وعلى الأقل جزئيا، من المفترض أن يساعد تاريخ أردوغان الإسلامي على إعادة إحياء الإمبراطورية العثمانية.

بعبارة أخرى، فإن الظهور كإسلامي جديد لا يزيد على كونه وجها للآيديولوجية العثمانية الجديدة.

وقد ظهرت لمحة عن ذلك في الخطاب الأخير لأردوغان الذي كان يحتفل فيه بفوز حزبه في الانتخابات. وزعم أن فوز حزب العدالة والتنمية يحتفي به في جميع أنحاء شمال أفريقيا ودول البلقان والشرق الأوسط، وبعبارة أخرى، في جميع المناطق التي كانت جزءا من الإمبراطورية العثمانية.

وتقوم تركيا بتعزيز وجودها الاقتصادي في معظم هذه المناطق، حيث يقدر حجم الاستثمار التركي في الشرق الأوسط ودول البلقان وشمال أفريقيا بنحو 100 مليار دولار.

وتعد تركيا المستثمر الأجنبي الأول في سوريا والبوسنة والهرسك وألبانيا. كما أنها شريك تجاري قوي لليبيا والجزائر. وقد نشطت البنوك التركية والمتعهدون الأتراك في جميع أنحاء المنطقة لمدة تزيد على عشرين عاما. وسوف يلبي مشروع العثمانية الجديدة احتياجات تركيا في بعض المجالات. ومع تحطم آمالها تقريبا في الانضمام للاتحاد الأوروبي، فقد وجدت أنقرة مجالا جديدا لسياساتها الخارجية في دول الشرق الأوسط الكبير ودول البلقان. ومن الممكن أن تتمكن هذه المنطقة الشاسعة والغنية من امتصاص الفائض الديموغرافي التركي الذي ذهب بصورة تقليدية إلى غرب أوروبا.

وحتى يتحقق حلم أردوغان يجب ضمان عدة أشياء:

أولا: يجب على أردوغان ضمان بقائه للسلطة لمدة لا تقل عن عشر سنوات. وهو يحاول التأكد من تحقيق ذلك من خلال تغيير الدستور التركي لإنشاء نظام رئاسي بدلا من النظام الانتخابي القائم. وفي هذا النظام يمكن لأردوغان أن يشغل منصب الرئيس لمدة لا تقل عن فترتين تبلغ مدة كل فترة خمس سنوات. وبإضافة فترة رئاسته للوزراء الحالية، فإنه ربما يتربع أردوغان على قمة تركيا حتى عام 2026.

ويتمثل الهدف الثاني لأردوغان في إضعاف المؤسسة العسكرية، وهي آخر مؤسسة ما زالت قادرة على تحدي سيطرة الرئيس على السلطة في المستقبل.

وقد حدثت خطوة في هذا الاتجاه الأسبوع الماضي عندما قام رئيس الأركان التركي الجنرال أسيك كوسانير وقائد القوات البرية الجنرال إردال جيلان أوغلو وقائد القوات البحرية أشرف أوغور يغيت وقائد القوات الجوية حسن أكساي بتقديم استقالاتهم.

ومن خلال هذه الخطوة يستطيع أردوغان تشكيل قيادة عليا جديدة يرأسها الجنرال نجدت أوزال، قائد الشرطة العسكرية السابق، تتكون من ضباط متعاطفين مع مشروع العثمانية الجديدة.

وخلال العقد الماضي أحكم أردوغان قبضته حول السلطة القضائية عندما قام بوضع حلفائه في مناصب مهمة. كما يسيطر رجال أعمال من حلفاء لحزب العدالة والتنمية على المشهد الإعلامي في تركيا.

وفي ظل النظام العلماني الذي تتبعه تركيا، تسيطر الحكومة على المساجد وغيرها من المؤسسات الدينية. وسوف يعمل هذا على تسهيل عملية إحياء النظام العثماني الذي يكون فيه الحاكم هو السلطان والخليفة في الوقت نفسه.

ومن المؤكد أن أردوغان ذكي بما فيه الكفاية ليعلم أنه لا يستطيع أن يطلق على نفسه لقب السلطان أو الخليفة، تماما كما لم يستطع بوتين أن يطلق على نفسه لقب القيصر. ورغم ذلك فإن المهم هو مضمون النظام الجديد الذي يحاول أردوغان إنشاءه، وليس شكله.

وتتمثل المشكلة الرئيسية أمام أردوغان في أن مشروع العثمانية الجديدة لا يروق لأغلب الأتراك. وقد فشل حزب العدالة والتنمية على مدار ثلاث دورات انتخابية متتابعة في أن يضمن لنفسه نصف عدد الناخبين. وفي جميع الحالات يرجع فوزه بصورة جزئية نتيجة لقوانين الانتخاب الغامضة.

وقد نجح حزب العدالة والتنمية في أن يصل بالاقتصاد التركي إلى طريق النمو دون ظهور أي معدلات للتضخم. كما أنه استطاع أن ينزع فتيل القنبلة الكردية العرقية الموقوتة، على الأقل في الوقت الحالي. وربما يكون الشيء الأكثر أهمية من ذلك هو أنه قد منح القطاعات الفقيرة في المجتمع مذاق السلطة للمرة الأولى.

ومن الممكن مقارنة أداء أردوغان بأداء بوتين الذي نجح بالمثل في إحياء الاقتصاد الروسي واستعادة جزء من مكانته دوليا.

ورغم ذلك فإن ما يبعث الحزن في النفوس هو عدم قدرة أردوغان، تماما مثل بوتين، على أن يصوغ طموحاته بما يتناسب مع القدرات الحقيقية لبلاده وتطلعات شعبه. فلا يمكن لتركيا أن تتحول إلى إمبراطورية بأي شكل من الأشكال. ولا يرغب أغلب الأتراك في ذلك، خاصة إذا كان الأمر يعني ظهور نظام استبدادي.