«كومونة» العرب

TT

أولا حكايتان، ويلي شرح الصلة.

قبل نحو عقد ونصف ألقى العقيد معمر القذافي خطابا أعلن فيه قيام «كومونة» ليبيا، مقلدا كومونة باريس كما قلد الثورة الفرنسية بتغيير أسماء الأشهر. كتبت يومها متسائلا ما العلاقة بين ليبيا أواخر القرن العشرين وباريس قبل مائة عام. وبعد أيام اتصل بي في لندن مدير مكتب وكالة أنباء الجماهيرية في باريس، وقال لي: «إن العقيد قرأ مقالك في خطاب ألقاه في سرت». ولما لاحظ أنني تلعثمت استدرك مطمئنا: «بإيجابية! بإيجابية»! ثم أضاف: «يتعذر على طرابلس الاتصال بلندن لكنهم يرجونك أن تتصل بهم على الرقم التالي.. وشكرت ربي أنهم غير قادرين على الاتصال».

وبعد أشهر التقيت في القاهرة الروائي الليبي أحمد إبراهيم الفقيه، وأخبرته بما حدث، وسألته: هل الرجل لم يفهم المقال؟ وقال إبراهيم: «ذلك الصباح كنت قرأت المقال، وبعد الظهر أصغيت شخصيا إلى الخطاب. وضحكت، في سري طبعا، فقد حوّر المقال لصالحه وجعلك شاهد زور».

الحكاية الثانية: عندما ذهب الرئيس أنور السادات إلى القدس كنا نعمل في مجلة «المستقبل» في باريس. ذهلنا كما ذهل سوانا في العالم. وعندما اجتمعنا لوضع عنوان الغلاف، الراحل نبيل خوري والزميلان إبراهيم سلامة وشكري نصر الله والداعي لكم ولهما بطول العمر، تقدم كل باقتراحه وانتهى الأمر إلى ما اقترحت: «العابر». وقلت إنها تحتمل أكثر من معنى، بينها العبور لربطها بحرب أكتوبر (تشرين الأول)، وبينها أنه عابر في التاريخ. وبعد صدور العدد ثارت ضجة الموافقين والمخالفين، ودخلت علينا غاضبة شابة مصرية تعمل في اليونيسكو، معاتبة، منتقدة، وفي النهاية قالت: «أنتم ما دخلكم. هذا ما يريده شعب مصر».

يقول أحد كبار كتَّاب فرنسا، الفونس دوديه، واصفا أيام «الكومونة» في باريس، إنه كان يتأمل المتظاهرين ويفكر في المصانع والمعامل والمدارس التي تركوها مغلقة. وهذا تماما ما كتبته في الأيام الأولى لتنحي الرئيس حسني مبارك. قلت: إذا لم تكن هناك قضايا جرمية في حقه فلتسترجع الدولة أي مال غير شرعي، وتوفر على نفسها وعلى الناس ضياع المال وضياع الأمن وضياع الهيبة وتراكم الفقر، الذي بعضه مسؤولية الأنظمة المتلاحقة، وبعضه مسؤولية الخصب البشري الذي لا يتناسب مع أي حل مرحلي. إذ كلما أمنت الدولة مشاريع لمليون شخص فوجئت بدق المزاهر في مليون ونصف المليون بيت وكوخ وعشوائية.

كررت أنني لا أعرف أحدا من نظام مبارك على الإطلاق. الوحيد الذي تربطني به علاقة ود قديمة هو الدكتور أسامة الباز، وقد أبعدته عائلة مبارك لأنه لا يقول نعم عندما يتعلق الأمر بمصر، ولأن له خبرة بدأت مع جمال عبد الناصر، يوم سمي جمال مبارك على اسم رئيس والده. مع ذلك أعرف أن مبارك ارتكب خطأ كبيرا عندما مدد منذ عقدين، وعندما قرر أن يورث، وعندما سمح للفساد بالاستشراء، ثم خصوصا عندما سمح لسيارات الأمن بدهس الناس، والشرطة بإطلاق الرصاص عليهم، وللهجانة باقتحام قلب القاهرة.

بالنسبة إلى نفسه يستحق مبارك المحاكمة. بالنسبة إلى بقية الرؤساء العرب والتاريخ العربي الحديث ليس سوى مسكين وقع في سلة تبن. بالمقارنة بين هجانة ميدان التحرير وميادين الحريات العربية العظمى، مسكين هو مسكينة سلة التبن التي وقع فيها. لكن القانون يقاس بالنسبة إلى العاملين بالقوى. ويقاس برغبة الشعوب في تطبيقه. وما دام الشعب المصري عاوز كده فليكن كده. لكن كان أفضل كثيرا لمصر ألا يمثل رئيسها السابق على سرير وفي قفص. كما كان أفضل لها ألا يخطئ أي من محامي الدفاع والهجوم وجميع أعضاء المحكمة في استخدام اللغة العربية. هناك كانت سلة التبن الكبرى. وما زلت أعتقد، بكل محبة، أن العودة إلى المصانع والمعامل والمدارس أفضل بكثير من الكومونة. في باريس وفي طرابلس وفي القاهرة.