متى يوقف الشعب السوري «عدوانه» المسلح!!؟

TT

«إنه لا يفقه شيئا لكنه يتوهم أنه يعرف كل شيء. هذا مؤشر أكيد لمستقبل سياسي»

(جورج برنارد شو)

متى يكف الشعب السوري عن قتل «الشبيحة» واستهداف رجال الأمن والجيش؟

رجاء لا تستغربوا طرح هذا السؤال.

إنه السؤال الذي يريد الإعلام السوري الرسمي - وشبه الرسمي - أن يطرحه كل متابع صبور.. أو ساذج طبعا. فما نسمعه بكرة وأصيلا من هذا الإعلام أن رجال الأمن والجيش - رحمهم الله جميعا - يسقطون برصاص جماعات «إرهابية» و«تخريبية» منذ نحو خمسة أشهر، من دون أن يجشم هذا الإعلام نفسه عناء الإشارة، ولو لمرة واحدة رفعا للعتب، إلى الضحايا المدنيين.. بمن فيهم الأطفال.

خمسة أشهر على «استهداف» الشعب السوري وأطفاله، بعناد عجيب، رجال أمنه وعسكرييه بالاغتيال والمجازر!

ولكن لتكتمل الصورة «الصادقة»، كان لا بد من عناصر مساعدة:

أولا، لا وجود في روايات الإعلام الرسمي وشبه الرسمي لـ«الشبيحة»، مع أن أحد الناطقين باسم النظام، وهو على ما أذكر يعرف نفسه بـ«أستاذ علاقات دولية»، تكلم عبر إحدى المحطات الفضائية العربية - المتهمة بالتآمر على سوريا و«الممانعة» - عن شباب «يقومون بواجبهم» في حماية الثورة والأمن والنظام!

ثانيا، وهنا النقطة الأهم، لا ذكر البتة تقريبا للضحايا المدنيين، مع أن معظم التقارير الواردة من داخل سوريا تتحدث اليوم عن تجاوز عدد الشهداء من أبناء الشعب الأبرياء حاجز الـ2000، بل إن ثمة جهات داخل البلاد تؤكد أن العدد تجاوز هذا الرقم بأضعاف مضاعفة، ناهيك من عشرات الألوف من الجرحى والموقوفين.

ثالثا، من المثير جدا إطلاق هذا الإعلام السوري الرسمي وشبه الرسمي نعوتا على شاكلة «الإرهابيين» و«المخربين» على أبناء مدن سوريا وقراها. وهذه نعوت تعيد إلى الأذهان ما كانت إسرائيل تستخدمه من كلمات لوصف فدائيي المقاومة الفلسطينية بين 1968 و1990، وبالأخص، على جبهتها مع لبنان. ولكن قد تصبح استراتيجية «الأرض المحروقة» على الطريقة الإسرائيلية التي تمارس اليوم بحق الشعب السوري، أقرب إلى الفهم لدى مراجعة تصرفات النظام على امتداد أربعة عقود.. وهي تصرفات قامت دائما على الاستئساد على المقاومة وصولا إلى تصفيتها، والتسليم بل الالتزام بهدوء جبهة الجولان المحتل.

رابعا، في خضم كيل تهم التآمر على المحطات الفضائية العربية والعالمية، لا بد أن يتساءل المرء عن سبب إحجام النظام عن تسهيل وصول «الحقيقة».. كما يراها. لا بد أن يتساءل عن سبب إصراره على رفض السماح للإعلام العالمي بالدخول إلى المناطق السورية حيث ينشط «الإرهابيون» و«المخربون» عسى أن يساهم ذلك في «فضحهم» أمام الرأي العام العالمي. بل إن ما يحصل هو العكس من ذلك، إذ مُنعت قبل فترة قصيرة صحيفتان لبنانيتان محسوبتان أصلا وفصلا على «محور دمشق – طهران» من دخول سوريا!

خامسا، لا شك، يتذكر كثيرون منا اتهام الإعلام السوري «المندسين» و«الإرهابيين» الأصوليين بإطلاق الرصاص على التظاهرات السلمية منذ أكثر من أربعة أشهر، لكن الغريب أن هؤلاء اختفوا تماما ولم يطلقوا رصاصة واحدة على تظاهرة واحدة من التظاهرات التي سارت - أو سيرت - تأييدا للرئيس بشار الأسد ونظامه.

بالأمس، وسعيا وراء مسلسل تلفزيوني رمضاني، أسعدني الحظ بالاطلاع على تغطية إحدى الفضائيات السورية شبه الرسمية، وأتيحت لي قراءة الشريط الإخباري أسفل الشاشة. وإليكم غيضا من فيض من آيات الإعلام الذكي الذي يتصور أنه يفهم شعبه، كي لا نقول يعي ما يشهده العالم من تحولات.

من أهم الفقرات الواردة في الشريط فقرة عن كيف ساعدت صور المسلحين «الإرهابيين» - طبعا - في شوارع المدن السورية في «ثبات» موقف روسيا الرافض للعقوبات خلال تصويت مجلس الأمن الدولي. وهذا من دون التوقف عند حقيقة أن الموقف الروسي تبدل حقا بسبب بشاعة الأخبار والصور الواردة من مدن سوريا المقموعة والمحاصرة.

وثمة فقرة أخرى لا تقل عبثية وطرافة، تنقل عن صحيفة لبنانية - هي إحدى الصحيفتين اللتين منعتا من دخول سوريا - كيف «نجحت» سوريا في تجاوز مأزق مجلس الأمن.

ونأتي إلى أطرف الفقرات على الإطلاق، وهي عن موقف الأرجنتين الرافض لأي عقوبات تستهدف سوريا، مع التذكير أولا بأن الأرجنتين - مع الاحترام الشديد لها ولشعبها الطيب - ليست قوة عظمى تأمر وتنهى وتقرر على المستوى الدولي، ثم إنها ليست بين الدول الـ15 الأعضاء في مجلس الأمن حاليا.

مع هذا «العقل» السياسي البائس الذي يضبط إيقاع التعامل مع إحدى أخطر الأزمات التي تواجه سوريا منذ استقلالها عام 1943، قد يصبح من السابق لأوانه التكلم بثقة كبيرة عن «الربيع العربي»، لكن هذه الأزمة تؤكد أنه مهما كانت أخطاء قوى المعارضة ومهما بلغت التضحيات في الشارع.. لا بد من «ربيع» ولو طال الانتظار.

بعد تجربتي تونس ومصر، حيث بقيت بقية من مؤسسات حكم أسهمت في مرحلة انتقالية «غير انتحارية»، تفاءل كثيرون بهذا «الربيع». ولكن تبين أن ليبيا واليمن ثم سوريا عاشت وتعيش واقعا مختلفا جدا. ففي هذه الكيانات ما عاد هناك وجود حقيقي لما يمكن تسميته «مؤسسات حكم» أو وجود للمفهوم العلمي لـ«الدولة».

لقد استحالت الدولة إلى قبيلة أو عشيرة أو طائفة مذهبية مسلحة، وهيمن أفراد العائلة على مقدرات أجهزة السلطة واحتكروا «شرعية» حمل السلاح، ومن ثم وضع الحاكم شعبه أمام خيارين مريرين لا ثالث لهما، فإما ديمومة احتكار «القائد التاريخي» السلطة إلى ما شاء الله.. أو الطوفان والتقسيم والخراب.

هذا ما فعله صدام حسين في العراق بعدما اكتفى بالإصغاء إلى أصداء ما يستسيغ سماعه، فكثر المنافقون والوصوليون والانتهازيون والأغبياء من حوله... حتى تفاقمت عزلته عن مجريات الأمور في العالم، واختلت قراءته لما يمكن أن يتعرض له.

اليوم مع سوريا وليبيا واليمن نحن أمام ثلاث حالات مشابهة لتجربة العراق وصدام، وهي تتوالى فصولا في ظل واقعين مأساويين: أولهما العجز العربي المقيم والمؤلم، وثانيهما خداع النفس الذي يتمدد بحيث يتوسم في ذاته القدرة على خداع الآخرين. ولكن لئن كان الواقع الجيو - سياسي لكل من اليمن وليبيا يسمح بالتعامل بتؤدة وشيء من الصبر، فإن نسيج سوريا الاجتماعي ووجودها في قلب «مثلث» التنافس الإقليمي غير العربي، بأضلاعه الإسرائيلي والإيراني والتركي، ما عادا يتحملان أي تردد أو تراخ.

إن نظام حكم يصر على ابتزاز شعبه بالفتنة الأهلية يصبح بقاؤه مصدر خطر على هذا الشعب.. وعلى شعوب المنطقة ككل.