الأسد في القفص!

TT

تقول العرب: بلغ السيل الزبى، إذا ما تجاوز الأمر القدرة على الصبر والاحتمال. وهذا بالضبط ما جرى من قبل نظام الأسد في سوريا تجاه التعامل مع الشعب السوري بعد الاحتجاجات المندلعة منذ عدة أشهر.

خطاب العاهل السعودي الملك عبد الله بن عبد العزيز هو الأهم منذ بداية المأساة السورية. هو الأهم نظرا لموقع وحجم الدولة السعودية، ونظرا لقيمة ومصداقية الملك عبد الله. وربما كان الخطاب السعودي الحاسم هو آخر شيء كان ينتظره بشار الأسد، بعد أن أتخم العالم وعودا وتنظيرا وابتسامات باردة توزع ذات اليمين وذات الشمال.

للمتذكر أن يستعيد لمحات من صورة الأزمة السعودية - السورية بعيد اغتيال رئيس الحكومة اللبنانية رفيق الحريري، الذي كانت كل الأصابع تشير فيه إلى تواطؤ سوري مع حزب الله، وصدرت القرارات الدولية الصارمة ضد جيش الأسد في لبنان، وخرج منها خروجا ذليلا، لكنه عاد لينتقم بطريقته الأثيرة، عبر الابتزاز السياسي وإطلاق الحملات الشتائمية من خلال أبواقه اللبنانية، وعبر التلويح بسلاح الحزب الإلهي الأصفر ومدفعية خطب «سيد المقاومة»، كما يحب أن يناديه بذلك جمهوره من الإعلاميين.

لكن السعودية، ورغم خطبة الأسد الشهيرة «أنصاف الرجال»، حاولت طي صفحة الخلاف لتوحيد الصف العربي من أجل القضية الفلسطينية، بعد حرب غزة، كما جاء في كلمة الملك عبد الله الشهيرة في قمة الكويت الاقتصادية، وقد رأى كثيرون في ذلك إكراما غير مبرر للنظام السوري، وهو لم يغير أصلا في مواقفه وسياساته التي استدعت الخلاف. وعلى رأس هذه السياسات طبعا الارتماء في عباءة الولي الفقيه في طهران، ولكن السياسة السعودية مضت في طريق المصالحة العربية - رغم عدم إثمارها - خصوصا من قبل الجانب السوري، حيث لم يتغير شيء يذكر إلا في الكلام المعسول.

مضى الأمر على هذه الحال حتى اندلعت أحداث درعا في أقصى الجنوب السوري، بعد أن تفجرت الانتفاضات في تونس ومصر وتم الإطاحة بالرؤساء هناك، فجرت دماء الحرية من جديد في شرايين الشعب السوري، وكتب أطفال درعا أولى سطور الحرية على جدران الألم السوري وكانت العبارة الشهيرة: «إجاك الدور يا دكتور!»، وهي العبارة التي كان النظام الأمني يخشاها أشد الخشية، فاستخدم كامل قوته الإرعابية، وكان أن أطلق قذائف الدبابات على بضعة عصافير سورية في درعا! ولم يفد الحل الإرعابي الأمني، ولا قلع الأظافر، ولا تشويه الجثث، فانفجر الماء الشعبي كسيل منهمر، والتقى الماء على أمر قد قدر!

أسقط في يد النظام بعد أن ثارت نار الحرية والكرامة في ريف دمشق وفي حمص وفي الشمال السوري بجسر الشغور وفي معرة النعمان ثم في حماه، تلك المدينة ذات التاريخ الخاص مع قمع النظام الأسدي، واستمرت في ثورتها العنيدة؛ الأمر الذي جعل سفيري أميركا وفرنسا يزورانها لرؤية الأمر بنفسيهما، فكان أن قال السفير الأميركي، فورد، بعد ذلك: «إن النظام السوري يكذب في حديثه عن الجماعات المسلحة التي يزعم أنه يسلط دباباته وجنوده عليها»، وإنه لم ير إلا الأهالي الثائرين فقط، ومنتهى ما لديهم هو «المقلاع» الحجري.

استمرت الثورة وانطلقت إلى الشرق السوري وبلاد الجزيرة الفراتية، دير الزور هبت، والقامشلي ثارت، والبوكمال انتفضت، والحسكة تزأر، والدبابات التابعة لماهر الأسد تجوب البلاد شرقا وغربا، ولا ننسى هبات الساحل السوري في اللاذقية وبانياس.

باختصار، أكثر من ثلثي البلاد يقول: لا.. لنظام بشار الأسد. وبشار عبر إعلامه التعيس يقول إنه فقط يواجه جماعات مسلحة أصولية وأحيانا يسميهم قطاع طرق، ويحاول الأسد، الشاب قليل الخبرة، أن يغطي على هول ما يفعل بابتسامات بلاستيكية، لا تقدم ولا تؤخر. وعوض أن يقوم بشيء حقيقي على الأرض، لإطفاء النار والغضب الشعبي، يقوم بعروض كلامية بهلوانية، أو حركات صغيرة مكشوفة مثل إثارة توترات محدودة في منطقة الجولان، للقول إنه: إما هو ونظامه، أو تسخين جبهة الجولان، في اعتراف صريح بأنه هو الذي يحمي حدود إسرائيل في هضبة الجولان. أو هذه هي الرسالة الضمنية المفهومة من مثل هذا التصرف.

لم يحظ نظام عربي بالحماية الدولية، ولم يكن له من الفرص، مثل نظام بشار الأسد. تقريبا جميع وسائل الإعلام العالمية والعربية وبّخت مجلس الأمن الدولي وهيئة الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي وأميركا على تقاعسها وخطابها الرخو تجاه المأساة السورية قياسا بنوعية الخطاب والإجراءات المتخذة في الأزمة المصرية والتونسية. لقد أخذ الرئيس السوري أكثر من فرصة، ومنحه العالم الكثير من الوقت ليفعل شيئا وغض الطرف عن كل مصائبه وقتله في البلاد والعباد لعدة أشهر.

الإعلام العربي أيضا وبخ الجامعة العربية، والإعلام الخليجي على وجه الخصوص أبدى مرارة من تقاعس دول الخليج عن فعل شيء في سوريا، ولزم الخليجيون «الرسميون» الصمت واكتفوا بالعبارات العامة والبعيدة؛ الأمر الذي أثار بالفعل حنقا وغضبا شعبيا لدى الناس بسبب شعورهم بأن هناك خذلانا واضحا للناس العزل في سوريا، ومع تناقل الإعلام الفضائي والإنترنتي للصور المستفزة عن جرائم الأجهزة الأمنية والشبيحة في سوريا ضد الناس، بلغ الغضب غايته، وبلغ الحنق على النظام السوري المستهتر أقصاه، خصوصا مع تدفق الكذب والمغالطات من قبل أبواق النظام في لبنان وسوريا.

كما قلنا لقد أخذ بشار أكثر من فرصة، ولو حظي مبارك في مصر بربع هذه الفرص لما كان مصيره سريرا منقولا في قفص مهين! ولكن بشار الأسد آثر المضي في طريق العناد والمغالطة واستغباء العالم كله في رهان كارثي على عباءة الولي الفقيه الإيراني.

لذلك جاء البيان الخليجي قبل أيام كمقدمة لحزمة من المواقف الخليجية الضاغطة، فقد صدر بيان «نصف قوي» طالب فيه السلطات السورية بالوقف الفوري لأعمال العنف، ثم جاء الخطاب الملكي السعودي بلغة حازمة وتوبيخ صريح، ونفي قاطع لحجج النظام في قمع الناس، ثم توج ذلك بإجراء واضح لسحب السفير للتشاور، وهو إجراء معروف في عالم اللغة الدبلوماسية يعني: رسالة احتجاج واضحة. لتمضي الكويت والبحرين على هذا المنوال وتسحبان سفيريهما أيضا.

ليست هذه هي نهاية الأمر بل بدايته بالنسبة للنظام السوري، وهو قد قرر العناد، وها نحن نرى تركيا، الدولة الأهم في شمال سوريا، تقرر أن تسحب الدعم عن نظام الأسد، ويتحدث أردوغان بلغة صريحة وموبخة للأسد، ويقرر إرسال وزير خارجيته، داود أوغلو، ربما في رسالة المهمة الأخيرة، ومع أوغلو أيضا رسالة أميركية صريحة بإعادة الجيش «فورا» إلى ثكناته. لتخرج بثينة شعبان وتقول في مبارزة لفظية بأن سوريا سترد على أوغلو بحزم أيضا!

الصورة واضحة: نظام الأسد يسير على سنة صدام حسين، العناد والمكابرة والعنترية اللفظية والمزيد من القمع وممارسات الشبيحة، والاستهتار البدائي بخطورة سلب الشرعية الدولية والسياسية منه!

لقد قرر الأسد بكل مهارة في الانتحار السياسي أن يصطدم بالعالم الخارجي وبالإقليم من حوله، كما اصطدم بشعبه من قبل ذلك، ولا يزال.

المسألة مسألة وقت فعلا قبل أن ينتهي النظام القائم على سيقان الأمن، وهي أولى السيقان التي تنهار حينما يفقد النظام شرعيته.

خطاب الملك السعودي دشن مرحلة جديدة، وربما أخيرة، في قصة هذا النظام العجيب في سوريا.

المثير للدهشة في قصة بشار الأسد ونظامه العائلي الأمني، هو أنه منح أكثر من غيره الفرص للتعلم وغفرت له الكثير من الأخطاء، لكنه لم يستثمر هذه الميزات، تماما كما سجل لنا التاريخ العربي تلك المقولة الشهيرة التي قالتها والدة آخر السلاطين العرب في الأندلس:

ابك مثل النساء ملكا مضاعا

لم تحافظ عليه مثل الرجال

[email protected]