سجن عمر سليمان

TT

حل أزمة الحكم في مصر، وهي أزمة حكم ولا شك، هي الخروج من سجن عمر سليمان، أي فك الارتباط بين خارطة الطريق التي رسمها عمر سليمان قبل نجاح الثورة وما يتبناه المجلس العسكري كخطة لانتقال السلطة في مصر، وهذه الخطة في أفضل صورها هي تعديل طفيف في نظام، أو ما يمكن تسميته بالتعددية المغلقة التي يتبادل فيها الإخوان والحزب الوطني المقاعد، أي أن يحصل الوطني والفلول على الـ88 مقعدا التي كان يحتلها الإخوان في البرلمان قبل السابق، ويحتل الإخوان والإسلاميون، مضافا إليهم الوفد، بقية المقاعد، مع مجموعة مقاعد مضافة إلى حزب الجبهة وشباب الثورة لا يتعدى العشرين مقعدا. ولكن تبقى الدولة المصرية كما هي بأجهزتها المترهلة، ومركزية الحكم، وسيطرة كاملة للقاهرة على مقدرات الوطن. فعمر سليمان لا يؤمن باللامركزية، ومؤمن فقط بنظرية المجتمع النهري الذي يحكم من السرة. أي لن يُنتخب محافظ واحد في مصر أو رئيس مدينة، لأن في انتخاب القيادات المحلية تفكيكا لمركزية الدولة، وهذا أمر يشترك فيه سليمان مع الإخوان ومع الأحزاب الصورية التي وضعها صفوت الشريف على المسرح السياسي المصري، وهو مسرح حقا، وليس حقيقة. تعرف أن مصر قد خرجت من سجن عمر سليمان عندما ترى محافظا واحدا منتخبا في مصر، فمصر عمر سليمان تستطيع أن تنتخب رئيسا، ولكنها لا تجرؤ أن تنتخب محافظا، لأن في انتخاب المحافظ إعطاء صلاحيات بداية للامركزية والديمقراطية الحقيقية، وهذا أمر يرفضه عمر سليمان وجماعته ويقاتلون ضده حتى الموت.

شاركت في الثورة من أولها إلى آخرها، وكنت في الميدان على مدى الثمانية عشر يوما وما بعدها، لم أترك مصر بعد تنحي مبارك، ولكنني انتظرت إلى يوم 25 فبراير (شباط)، أي بعد التنحي بأسبوعين، لأفهم القصة. غبت عن الوطن قليلا، متصورا أن شيئا ما قد يحدث ليضع مصر على الأقل على سكة التحول الديمقراطي، وها أنا ذا أعود لأجد مصر ما زالت حبيسة خارطة طريق عمر سليمان.

كيف أدخل عمر سليمان مصر في سجن كبير بهذا الشكل وأصبح العائق الأول في وجه التحول الديمقراطي؟ مهم قبل معرفة تفاصيل هذا السجن وكيفية دخولنا فيه أن نعرف السياق الذي جرى فيه رسم وتصميم هذا السجن الكبير، الذي دخلنا فيه وبدأنا ندور في حلقة مفرغة مثل بقرة مربوطة في ساقية.

ملامح السجن جاءت نتيجة لمفاوضات تعكس ما تصوره سليمان وفريقه على أنها توازنات القوى في المجتمع في الفترة من 28 يناير (كانون الثاني) إلى ربما 9 فبراير، قبل جمعة التنحي. مهم أن يعرف الجميع أن الثورة لم تكن بذات الزخم، خصوصا بعد خطاب مبارك الثاني الذي قسم المجتمع إلى نصفين. في ذلك اليوم كانت الحالة هي أن الناس قد أنهكت في ميدان التحرير، وأن الكثيرين كانوا قلقين من تغير موقف الشعب بعد خطاب مبارك الثاني. كان الناس في التحرير منهكي القوى، وأذكر أن الجميع كان يسألني في الميدان عن موقف الأميركيين خصوصا وموقف الغرب عموما تجاه مبارك، «لأن الناس تعبت» كما قال لي عقيد متقاعد كان ضمن خيمة الإخوان القابعة في ركن شارع التحرير وطلعت حرب، في إحدى وكالات السياحة هناك، حيث كان يعسكر النجم الديني صفوت حجازي والمستشار محمود الخضيري وبعض قيادات الإخوان القدامى. المهم أن الأجواء في الميدان في تلك الأيام لم تكن أجواء متفائلة أو لديها ذات الإصرار إلا بعد الزخم الشعبي الذي أحدثته موقعة الجمل، التي قلبت تعاطف الناس بعيدا عن مبارك وأعادته للميدان مرة أخرى، وبالميدان أعني كل القوى الموجودة هناك.

تلك هي الأجواء التي كانت تحيط بعملية التفاوض مع عمر سليمان، وهي مفاوضات كانت بين النظام من جهة، والإخوان المسلمين من جهة أخرى، فهما طرفا المعادلة. ومع ذلك أضاف السيد عمر سليمان وجهازه صفة العمومية على المحادثات ودعوا إلى اللقاءات أطرافا أخرى، مثل أصحاب القنوات الفضائية وأصحاب الصحف الذين سيحملون رسالته إلى الشعب بالتعليمات، بل وأضاف سليمان إلى المشهد بعض البهارات لزوم الديكور مثل لقائه مع أحمد زويل وبعض الشخصيات العامة، ولجنة الحكماء بمن فيها من عمرو موسي ونبيل فهمي وساويرس وبعض الأكاديميين، ثم الصحافيين، ثم بعض الحركات الاحتجاجية الأخرى من «كفاية» و«6 أبريل» والجبهة، إلى آخر القائمة المعروفة والمسجلة في دفاتر المخابرات العامة. المفاوضات لم تكن مع كل هذه الحركات، المفاوضات الحقيقية لم تكن مع الأحزاب التي كان ينظر إليها مكتب سليمان على أنها ديكور، بل كان جوهر المفاوضات مع الإخوان، ولا أحد سواهم.

ولو استعرضنا الأشرطة التلفزيونية لكل هذه القوى يوم جمعة الرحيل وبعد وعود أخذوها من عمر سليمان ورئيس الوزراء يومها أحمد شفيق لعرفنا أن أسوار السجن قد اكتملت بعد أن أخذت كل مجموعة ما أرادت من مطالب فئوية من عمر سليمان ومن رئيس الوزراء. أذكر أنني ذهبت للحديث على واحدة من القنوات التلفزيونية وكنت متحمسا جدا يومها لرحيل مبارك، وفجأة وجدت تحولات كبرى على الشاشات. وجدت أنهم وضعوا تعريفا جديدا لجمعة الرحيل فلم تعد تعني رحيل مبارك، بل أصبح معناها هو «جمعة رحيل الثوار من ميدان التحرير». ودفع عمر سليمان وشفيق بجيوش من الإعلاميين والأكاديميين ممن يرددون هذه المقولة. كنت الوحيد مع قلة ممن لم يدعوا إلى حوارات سليمان، وكنا ننادي برحيل مبارك، بينما جماعة عمر سليمان كانت تنادي برحيل الشباب من الميدان. وصمد الشباب ورحل مبارك، ولم يدخل السجن، بل أدخل مصر كلها السجن، لأن هناك إصرارا على تنفيذ خطة سليمان بحذافيرها. وللحديث بقية.