الصومال الذي لا بواكي له!

TT

في الصومال البلد المسلم (عضو منظمة التعاون الإسلامي) والعربي (عضو الجامعة العربية) يموت كل ربع ساعة أربعة أطفال ليس بفعل الإرهاب أو النزاعات الأهلية أو ضحايا الاحتلال أو عنف النظام السياسي، حيث تؤكد التقارير الصادرة من المنظمات الإنسانية والإغاثية أن عدد من ماتوا بفعل الجوع خلال ثلاثة أشهر يزيد على الثلاثين ألف طفل!

الصومال بلد له تاريخ ضارب بجذوره في عمق تراثنا الإسلامي، حيث الإمام الزيلعي، أحد أبرز شارحي المذهب الحنفي في موسوعة تبيين الحقائق، وهو أيضا من جهة ثانية غني بالموارد وبثرواته البحرية، إضافة إلى المناطق الرعوية والزراعية، فضلا عن وجود كميات من اليورانيوم والنفط الذي لم يستغل بسبب النزاعات الأهلية، ومع ذلك فلا يتم تذكره إلا في الأزمات وبشكل خجول أو على سبيل التمثيل والتشبيه، حيث ترفع الأحزاب السياسية في عالمنا العربي شعار الخوف من الصوملة في نقدها للسلطة أو العكس.

وإذا كان هذا الغياب يمكن فهمه لا تبريره فيما يخص قطاعات واسعة من الأحزاب السياسية ذات الصبغة العلمانية بيمينها أو يسارها؛ فإن ضعف وهشاشة حضور الإسلاميين برموزهم ومؤسساتهم وجمعياتهم الخيرية الذي يصل لدرجة الغياب هو أمر محير جدا، لا سيما إذا علمنا أن بلدا كالصومال ومنذ خروج القوات الأميركية منه يعد بلدا مكتمل الشروط للنصرة الكاملة بمفهومها الإسلامي المعتدل وحتى الأصولي والمتشدد منه، حيث السلطة والمعارضة التي تنابزها بالسلاح تمثلان أطيافا من الحركة الإسلامية بأجنحتها من أقصى الاعتدال وصولا إلى التطرف وخطاب القاعدة، والسؤال إذن ما الذي يمكن أن يجعل قضية الصومال بزخمها الإنساني المؤلم ومأساتها التي تلامس أقصى حدود الرعب البشري قضية رأي عام إسلامي بما تعنيه الكلمة من تجييش وتبنٍ؟

يمكن القول إن هناك تراجعا نسبيا في العمل التطوعي والإغاثي الإسلامي ما بعد الحادي عشر من سبتمبر فرضته المرحلة بسبب اختراق جماعات متطرفة لبعض المؤسسات وغياب آليات الرقابة والتنظيم لعمل تلك المؤسسات مما اقتضى حركة تصحيحية من كثير من الدول الإسلامية، لكن ذلك لا يكفي للإجابة عن السؤال، فالأمر أشبه بارتباط تحول قضية كهذه إلى أولوية في اهتمام الإسلاميين ودخولهم في منافسة وصراع مع خصومهم وأعدائهم وهو أمر غير موجود في الحالة الصومالية الراهنة، حيث لا يعاني من احتلال أميركي ولا تنشط فيه حركة تبشير ديني أو مذهبي طائفي بحيث يقتضي ممانعة، وهنا تقودنا الحالة الإسلامية في تعاملها مع وضع الصومال إلى سؤال أكثر تعقيدا، حيث أزمة الهوية في الخطاب الإسلامي السياسي منذ نشأته الحديثة، والتي بدت منذ لحظتها الأولى على التعريف من زاوية الآخر أو ما يسمى في علم المنطق والفلسفة بالـ«المغايرة»، حيث الآخر يرسم ملامح الذات وأهدافها.

أزمة الهوية جعلت رموز الإسلام السياسي ومؤسساته وجمعياته وحتى فعالياته الشعبية بحاجة إلى «عدو خارجي» يتبدى في شكل استعمار ليشعر بتلك الأولوية أو عدالة قضية ما، وحتى لو قلنا إن كارثة الجوع هي أزمة عالمية تتجاوز طاقة وقدرة الإسلاميين على استيعابها، إلا أنهم يملكون من الأدوات التعبوية بحكم احتكامهم على مصادر التلقي حتى الحديث منها كالإعلام الجديد ما يجعلهم قادرين على تحويل قضية الصومال إلى غزة أو سراييفو أو كابل جديدة، عدا أن هذا التجاهل للحالة الصومالية سبق كارثة الجوع في مسألة ذات بعد إسلامي محض، وأتحدث هنا عن غياب أي دور في عقد مصالحة بين فئات الإسلاميين المتناحرين في الصومال منذ فترة طويلة ولأسباب تتصل بالاختلاف الفكري والآيديولوجي بينهم أكثر من كونها خلافات بين كيانات سياسية متناقضة كما هو الحال في بلدان أفريقية أخرى.

الكارثة الآن هي أن أكثر من 3 ملايين في الصومال مهددون بالموت جوعا وخلال فترة قريبة جدا، بينما تشير التقارير الصحافية إلى أن ثمة اعتراضات من قبل مجموعات متطرفة تنتمي لحركة الشباب لوصول المساعدات الضئيلة إلى المتضررين من المجاعة وعلى رأسهم الأطفال!

وضع الصومال الآن هو الأسوأ عالميا واحتمال امتداد المجاعة القاسية إلى كل مناطق الجنوب الصومالي هو أمر يتعلق بأسابيع قليلة من الصمت واللامبالاة الدولية التي تعلقت بأوهام نمطية عن ملف الإرهاب هناك، لا سيما بعد فشل دام أكثر من 12 سنة للتدخل العسكري الأميركي والذي تعامل مع الحالة الصومالية على طريقة الأرض المحروقة، حيث لم يسهم تدخلها ولا انسحابها في بناء دولة أو إقامة حكومة قوية أو التأثير على زعماء الحرب هناك.

لا أحد يعلم أو يتوقع مقدار نزيف الصومال من أطفاله بسبب الجوع، حيث يقول تقرير برنامج الغذاء العالمي إن 30 في المائة من الأطفال يعانون سوء التغذية الحاد، و20 في المائة من السكان من دون طعام، والوفيات تقدر يوميا بـ2 لكل 10 آلاف من البالغين، و4 لكل 10 آلاف طفل، وهي أرقام مخيفة ولا شك، لكن المهم هو ألا يتم التعامل مع الحالة الصومالية كقضية إغاثة مؤقتة أو موسمية، لأن الصومال البلد الغني بالموارد بحاجة إلى مشروع دولي يتبنى خيار التنمية المستدامة، وهذا لن يتحقق من دون أن تكون الأولوية من قبل المجتمع الدولي والدول الإسلامية والجماعات والمنظمات الإسلامية هو بناء دولة مؤسسات في الصومال تكون صمام الأمان الوحيد للخروج من مستنقع الحروب وما تخلفه من ويلات وكوارث إنسانية.

التأكيد على «إسلامية» و«سنية» المسألة الصومالية الذي افتتحت به مقالي لم يكن لدوافع طائفية أو إثنية بقدر ما أنه يشير بأصابع التشخيص إلى المشكلة وأن جذرها العميق يكمن في الوصول إلى صيغة توافقية بين أطراف النزاع وهي في مجملها تنتمي للمجال الإسلامي بأطيافه المختلفة ودون هذه الصيغة التي يجب أن تقوم بعبئها منظمة التعاون الإسلامي أو اتحاد علماء المسلمين أو حتى كوكبة من رموز الإسلاميين الذين يحظون باحترام المتنازعين الصوماليين لن تحل كل جهود الإغاثة العاجلة الأزمة، بل سترحلها فقط إلى وقت آخر وكأننا بإزاء مشهد تراجيدي أسود من فيلم واقعي مرير!

[email protected]