إلى من يعنيهم الأمر في الحكومة الأميركية

TT

من أقوال كلاوتزفيتز الشهيرة: «اتخذ استراتيجية صحيحة، حاول الوصول إليها بتكتيكات خاطئة، عندها ستكتشف أنك وصلت إلى عكس الهدف»، ومن النصائح الشهيرة في شرقنا العربي هذه الأيام.. «لا تعطه سمكة، بل أعطه سنارة وعلّمه صيد السمك»، الهدف الاستراتيجي هنا هو توفير الطعام للشخص، أو للمجتمع أو للشعب المقصود بالنصيحة، أما التكتيك فهو إمداده بالسنارة وتعليمه الصيد. وعلى نفس المنوال، هل تريد أن تعلم شعبا ما الديمقراطية؟ حسنا.. خصص جزءا من ميزانيتك - بالدولارات طبعا نظرا لما لها من سحر في الشرق الأوسط - وادفعها لمؤسسات وتنظيمات المجتمع المدني لمساعدتها على السير في طريق الحرية بهدف استراتيجي هو تحقيق الديمقراطية. الهدف واضح هنا وأخطر ما فيه أنه منطقي يحتوي على كل عناصر المنطق الصوري الأرسطي، وهو ذلك المنطق الذي ليس له صلة بواقع الأمور، ففي حكاية السنارة والصيد، فربما يبيع تلميذك السنارة ويشرب بثمنها «معسلا» على المقهى، وربما يذهب لمحل سمك ويشتري سمكا مشويا أو مقليا، ليس لأنه عاجز عن الصيد ولكن لأن البحيرة الذي علمته أن يصطاد منها، مياهها ملوثة بفعل ما تلقيه المصانع فيها من نفايات خطرة قتلت كل ما فيها من أحياء مائية.

قبل أن أواصل حديثي يهمني أن أوضح أمرا كثيرا ما أعلنته من قبل وهو أنني ممتن ومقدر لكل ما حصلت عليه مصر من معونات أميركية وغربية في الثلاثين عاما الماضية، ومع اعترافي أنه قد أسيء استخدام أجزاء منها، فإن ما تبقى منها للمصريين كان مفيدا للغاية، وخاصة في ما يختص بالبنية التحتية التي كانت قد تدهورت تماما بفعل الحروب والخوف منها والاستعداد الدائم لها. والآن أقول إن المعونات المادية لمنظمات ومؤسسات المجتمع المدني بهدف تحقيق الديمقراطية أمر ينطوي على خيال عاجز عن التحقق أو هو تكتيك عاجز عن تحقيق استراتيجيته، وأرى أن البديل يجب أن يكون إعادة وصل الوعي المصري العام بحضارة الغرب؛ وذلك عبر تخصيص نفس الميزانية للاهتمام بإبداع المواطن الفرد في فروع الفن والثقافة المختلفة، وذلك على هيئة منح للتدريب لمدة ستة شهور في استوديوهات الإنتاج السينمائي في أميركا والغرب بوجه عام، بالإضافة إلى منح تدريب في دور الصحف الكبرى، لست أتحدث عن تلك الزيارات السريعة ذات الطابع السياحي، ولكني أتحدث عن عمل دائم ومخالطة للعاملين في الصحف وبرامج الـ«Talk Shows». إن الإبداع الفني والثقافي هو القاطرة الحقيقية التي تشد المجتمعات إلى الأمام، ومصر تكون في أفضل أحوالها عندما لا ينسى أهلها أنهم جزء من ثقافة البحر الأبيض، هذا هو ما أثبته العصر الحديث عند بناء الدولة الحديثة، عندما أرسل محمد علي باشا أبناء الفلاحين في بعثات تعليمية إلى فرنسا وعادوا بعد سنوات قليلة ليقوموا ببناء حركة ثقافية وإبداعية واجتماعية عظيمة ظلت فاعلة إلى أن جئنا نحن وقضينا على ما تبقى منها في أقل من نصف قرن. نحن عرب ولا ننسى ذلك، ونحن أفارقة ولا ننسى ذلك، أما ما ننساه حقا فهو أننا بحر أبيض وأن ثقافتنا لا تزدهر بغير أمواج هذا البحر والجلوس على شواطئه. يوما ما من آلاف السنين لم يكن البحر الأبيض أكثر من بحيرة بين مصر واليونان، وعليه أن يعود مرة أخرى همزة للوصل بيننا وبين الغرب، والشبان الذين يركبون الزوارق المتهالكة ليصلوا إلى شواطئه القريبة البعيدة، ويموتون غرقا، إنما هم يستجيبون لنداء الحضارة في أعمق أعماقهم، ذلك النداء الغامض الذي يدفع الإنسان لاحتضان الخطر والسباحة في المجهول من أجل حياة يعتقد أنها الأفضل. عندما نهتم في مصر بصناعة الإنسان، أقصد عندما نقوم بتدريبه وتعليمه سيكون من السهل عليه أن يذهب إلى هناك بتأشيرة دخول، بل سيكون من السهل علينا أن نأتي له بالغرب عندنا بكل ما فيه من حقوق للإنسان لينعم بالمستوى الراقي للمعيشة ويستمتع بالحق في أن يحلم ويحقق أحلامه.. هنا، وليس هناك. نعم من حقه أن يعيش في أوروبا هنا بغير أن تضطره ظروفه أو أحلامه بأن يموت وهو في طريقه إلى هناك.

من الطبيعي أن يرى النجار أن مصر تنقصها صناعة جيدة للموبيليا، وأن يرى المهندس أن مصر تنقصها الهندسة المبدعة، وأن يرى الفنان أن التقدم الحقيقي تلزمه حركة فنية مبدعة في مصر، وأننا يجب أن نستفيد من هؤلاء الذين سبقونا، وهذا هو ما أطلبه الآن، بجزء صغير من ميزانية هذه المعونات يمكن إنشاء دار نشر تقوم بنشر كل أنواع الإبداع الأميركي والغربي في مجال الرواية والقصة القصيرة، لست أتحدث عن النشر بوجه عام، أنا أتحدث عن الروايات (novels) بوصفها المصدر الرئيسي للبهجة وثراء النفس ورجاحة العقل، تراث الغرب في الرواية عظيم، والتراث الروسي عظيم، والتراث الأميركي أيضا عظيم على الرغم من حداثته النسبية، غير أن أجمل ما فيه هو أن رواده استطاعوا هضم التراث الأوروبي وقدموا إبداعا أميركيا خالصا، من المستحيل لعقل ذاق حلاوة الرواية الغربية أن يتحول إلى عقل متعصب أو متطرف. الإنسان يقرأ الإبداع على سبيل التسلية في الوقت الذي يتسلل فيه هذا الإبداع إلى روحه وعقله صانعا منه إنسانا جديرا بحب الحياة والدفاع عنها.

حكاية دفع الفلوس لمساعدة المدافعين عن الحرية والديمقراطية، مفهوم سابق تابع لمرحلة الحرب الباردة، الفلوس لن تجعل المدافعين عن الحرية أكثر حماسا وغيابها عنهم لن يرغمهم على التخلي عن مشروعهم، هكذا لا يتبقى لهم وللمجتمع ككل سوى الشك والريبة فيهم باعتبارهم أشخاصا «يقبضون» من الخارج لتنفيذ أجندات غير وطنية. وليكن واضحا لكل هذه التنظيمات، أن المصريين فقط مسؤولون عن تمويل نشاطكم وعليكم أن تلجأوا إليهم وأن تقنعوهم بحتمية ذلك، علما بأن تمويل المشاريع العامة ليس شيئا جديدا على المجتمع المصري؛ لقد أنشأ المصريون من قبل جامعتهم الأولى بتبرعاتهم، كما أنشأوا المدارس والمستشفيات، لا مفر من عودة المجتمع المدني إلى مصر وسيعود حتما بعد تجارب خائبة ومريرة استمرت نصف قرن.

لا أعرف مدى قربكم أو بعدكم عن محطات التلفزيون الفضائية الجديدة التي تتكاثر كالفطر في فضائنا، غير أنه من السهل أن نعرف أنها تقوم بإلغاء بعضها بعضا، من المستحيل أن تحقق ما تصبو إليه من تأثير إذا كانت تفكر في تحقيق تأثير ما، هي مشاريع - باختصار - غير جادة، وهي أيضا ناتجة عن مفاهيم قديمة تعود للحرب الباردة، كلها مبنية على نظرية قديمة في الإعلام السياسي هي «تعالوا نقول لهم كذا كذا».. نحن الآن في مرحلة تعالوا «نفعل» كذا كذا من أجلهم.