الإنسان

TT

لا أحب أن أفكر كثيرا في هذه الأحجية التي نسميها الطبع البشري. فإذا حاولت أن أفكر فسوف أتعذب من دون أن أصل إلى جواب، أو معرفة. لا يمكنني أن أفهم كيف ترك أوسكار وايلد ولديه لكي ينضم إلى عشيق. لا أستطيع أن أفهم كيف يفجر مخلوق له صورة الإنسان ومكوناته الجسدية، مائة مواطن لا يعرف من هم ولا ما هي حياتهم ولا نوعية مستقبلهم ولا مستواهم الفكري، ثم يفجر نفسه (ذهاب بلا عودة) وهو على قناعة بأن القتل الجماعي طريق إلى الجنة والحزام الناسف بطاقة الدخول. كيف يمكن أن تكون الجثث طريقا إلى حضرة الرحمة الكبرى؟

ولا يمكنني أن أفهم شاهد الكذب وقاضي الزور وما هي الأحلام التي يراها هذا في الليل. ولا أستطيع أن أفهم أن بين البشر قناصا، له من يأمره بقتل من لا يعرف، وفيه قدرة على رمي إنسان لم يره بالرصاص. ولست أفهم كاتبا، باسم مستعار أو صريح، يبرر الدم والقتل والدمار وملء النفوس بالحزن والبلدان بالفرقة. ولا أفهم ولا أستوعب كيف يمكن لـ«المحقق» أن يتحمل أنين وصراخ وعذاب وتوسلات ضحيته. ومن يتعذب أكثر في هذه الحال.

روى اللواء لطيف في «النهار» كيف تم التحقيق معه قبل سنوات، كمسؤول عن «التيار الوطني الحر» ورفيق للجنرال ميشال عون. قال إن المحققين حاولوا أن يرغموه على الإقرار بما لم يفعله ولم يتخيله، وخصوصا بأن يشي بالجنرال عون. وكان أصعب ما في الموقف ليس براءة اللواء لطيف، البالغ يومها الثمانين، بل قناعة المحققين بأنهم يفترون بناء لأوامر واضحة. يقول ألكسندر سولجنتسين إن نوعية الحكم تصل إلى الدائرة قبل وصول المعتقل. ويقول اللواء لطيف إنه كان يشفق على المحققين اضطرارهم إلى مشاركته - ولو إلى ساعات - الزنزانة العفنة والحقيرة التي وضع فيها.

يروى أن القيصر ألكسندر الثاني أمر بأن يوضع في زنزانة يوما كاملا لكي يعرف بنفسه ماذا يعني ذلك. وبعد ساعة طلب إخراجه، شبه مختنق، وكتلة ذليلة من اللحم. ومنذ التجربة صار الجحيم يأتي إليه في الليل بكل كوابيسه. وقد حاول سبع مرات الانتحار لاختصار الطريق.

يهدي سولجنتسين كتابه «أرخبيل الغولاغ: 1918 – 1956» «إلى جميع الذين لم يبقوا أحياء ليرووا ما حدث، وليسامحوني أنني لم أرَ كل شيء ولا أذكر كل شيء، ولأنني عجزت عن تدوين كل شيء من ذلك العذاب المقدس».

كان الحرس يراقبون السجين 24 ساعة من الثقوب والأبواب «لكن إذا استطعت تحمل كل ذلك الصراع ولم تنهَر ولم تصب بالجنون ولم تمت عذابا، فإنك تستحق آنذاك أن يكون ذلك زنزانتك الخاصة الأولى». لا ينصح ذوو النفوس الضعيفة بقراءة يلتسين، ولا ذكريات السجناء العرب!