تحولات رمزية

TT

تتصدر أحد مشاهد المظاهرات التي حدثت قبل أيام في لندن حاوية قمامة خضراء، تظهر على الشاشة، بينما يجري تدافعها بين المتظاهرين ورجال الشرطة. هذا المشهد تحديدا عرض مرارا وتكرارا على قناة إخبارية سورية، ولولا تعليق القناة الذي حمل الكثير من التشفي ببريطانيا، لظن المشاهد أن المشهد مقتطع مما يجري في المدن والبلدات السورية، فمنذ بدأت المظاهرات بالخروج إلى الشارع السوري، كانت حاويات القمامة أحد عناصر كادر الصورة، وتجاوزت في استخداماتها أداة تجميع للقمامة فيها وحولها، لتصبح إحدى أدوات الحماية التي يستخدمها المتظاهرون لتحصين مكان الاعتصام إلى جانب إطارات الكوتشوك.

أول ما يقوم به المتظاهرون لدى ورود أنباء عن وصول قوات من الأمن والشرطة، المسارعة إلى إقامة حواجز بإحراق الإطارات وإشاعة دخان كثيف في الأجواء، وإلى خلفها تصطف حاويات القمامة على عرض الطريق لعرقلة تقدم قوات الأمن والشبيحة والشرطة، هكذا بدأ استخدام الحاويات بالتحول حسب متطلبات المواجهة والكر والفر، من إضرام النار فيها أثناء الملاحقات والاختباء خلفها تجنبا للرصاص، إلى عربات تتحرك ذهابا وإيابا بين الطرفين، ومع احتدام المواجهة ووقوع ضحايا تصبح الحاوية ساعي بريد يحمل رسائل بالغة التوحش والانحطاط الإنساني، باعتبارها المكان الأنسب لدفن الخصم. وفي حالات الهجوم الاستباقي قد تكون إزالتها من الشارع من أول الإجراءات لتجريد المتظاهرين من أدوات الحماية. كما جرى في اللاذقية منذ أسبوعين بحسب ما قاله ناشطون عن سحب كافة الحاويات من أحد شوارع حي السكنتوري.

هذا في الوقت الساخن، أما في فسحات الهدوء النسبي فيمكن للحاوية أن تكون وسيلة إعلام للتعبير عن المواقف، وكما يطلق مؤيدو النظام السوري حملة لكتابة أسماء القنوات العربية والأجنبية التي يعتبرونها تحريضية ومغرضة على الحاويات، يقوم المتظاهرون بكتابة أسماء القنوات التلفزيونية المحلية على الحاويات، فتغدو الحاوية أداة تعبير مجازي حمالة أوجه، إذ إن الجانبين يستخدمانها لنعت ما يظهر في الإعلام من مواد عن الوضع في سوريا بأنه «قمامة»!! وإذ تعادل الجانبان في استخدام هذه الأداة كوسيلة إعلام، فإن المتظاهرين أثبتوا أنهم تغلبوا على الطرف الآخر باستخدامها وسيلة دعاية سياسية، وكتبوا على الحاويات شعارات تحط من الخصم، ونوعوا على ذلك بالسخرية وإطلاق تسميات عليها تصفها بأنها منزل فلان أو فلان ممن يناهضونهم، وفي هذا السياق ظهرت مقاطع فيديو ساخرة أخذت فيها الحاوية دور البطولة المطلقة. سوريا الساخنة خلال 5 أشهر أكسبت الحاوية للمهمل والفاقد القيمة دلالات رمزية ثورية قابلة للتصدير، فشوهد في شوارع لندن من يضرم فيها النار تارة، أو تدفع بسرعة من قبل المتظاهرين، دلالة كانت دافعا لبعض السوريين للتندر، واعتبروا أن «الزمان الذي يصدر فيه العرب ثوراتهم إلى الغرب قد جاء».. فمنذ الثورة الفرنسية والعرب يحلمون بها ويستوردون ثورات من الغرب، وآن لهم أن يصدروا ابتكاراتهم الثورية المحلية، مع فارق أن الثورات العربية اليوم تتمخض بعيدا عن الأيديولوجيات المسبقة الصنع، وعن تأثير الرياح العالمية، لتصنع مفاعيلها المعبر عنها وعن واقعها، بما يعني رفض التهميش والإهمال، والذي يجد تمثلاته في حاويات القمامة الرثة. فالأحياء الشعبية في البلاد العربية عموما عانت من إهمال الحكومات وسوء الخدمات، وعلى سبيل المثال عندما اشتعلت الأحداث في حي الصليبة والسكنتوري في مدينة اللاذقية خلال الشهر الأول من انطلاق الاحتجاجات، أوردت وكالة الأنباء الرسمية «سانا» نبأ عن قيام المحافظ بزيارة إلى هذين الحيين ووعد السكان بتحسين شبكة صرف صحي فيهما!! الخبر مر مرور الكرام كونه يتناول شأنا خدميا لا يعني وسائل الإعلام المهمومة بالخبر السياسي، ولكن إذا تأملنا قليلا وعرفنا المساحة التي تشغلها هذه الأحياء من إجمالي مساحة مدينة سياحية كاللاذقية، والتي تعادل الثلث تقريبا، وكثافة عدد السكان القاطنين فيهما لهالنا أن يكون في هذا العصر أحياء مثلها تعاني من رداءة في شبكة الصرف الصحي. هذا عدا عن إهمال باقي الخدمات التي تعنى بنظافة البيئة لا سيما في سوق الخضار. هذه الأحياء مجرد نموذج لحال غيرها من الأحياء الشعبية في المدن العربية، كما أنها مثال عن تراكم مخلفات الإهمال والتهميش الذي أنتج بالنهاية قمامة، بدأت تتحول اليوم إلى أحد أسلحة المقهورين الموجهة إلى صدر حكومات أدمنت تجاهل الشعوب وإذلالها، والتي إذا شئنا قياس أدائها العام علينا التجول في الأحياء الشعبية وأيضا في الأحياء الراقية، ونسبتها إلى المساحة وعدد السكان، والنظر إلى حجم الفجوة بينها. إن حجم الفجوة هو حجم الخلل، وبمعنى آخر حجم الفساد والإفساد. لأنه في الوقت الذي كانت تشيد فيه القصور والفيلات للأغنياء الجدد من ناهبي الثروات، كان عدد أكوام القمامة يزداد ارتفاعا في الشوارع الخلفية للمدن، ومع انطلاق شرارة الثورات العربية أعلن النفير العام في سوريا، لترحيل تلك الأكوام من النفايات من على صدر شعب أثبت عبر تاريخه وبجدارة أنه سليل حضارات عريقة، والأهم أنه شعب يمهل ولا يهمل.