اليوم التالي بعد الثورة!

TT

هل تذكرون فيلم «اليوم التالي» الذي قامت ببطولته جين فوندا، وكان حول ذلك اليوم الذي يأتي بعد تدمير الكرة الأرضية. وبعد ذلك ظهرت أفلام أخرى مثل «اليوم بعد الغد»، وعام «2012»، وفي هذه وغيرها كان على البشر أن يواجهوا أوضاعا استثنائية انقلبت الدنيا فيها رأسا على عقب بعد حدوث زلازل كبرى، أو فيضانات عظمى، أو حتى تغير في مناخ الكرة الأرضية يجبر البشر على الرحيل مثل الطيور المهاجرة بعد أن لم يبق مكان لعيش.

الأمر ليس بمثل هذه الحدة في حالات الثورات التي تلم بالدول والمجتمعات، ولكن بعضها يقترب من تلك الحالة كما عرفناها في الثورات الأميركية، والفرنسية والبلشفية والصينية والإيرانية، حيث تبدلت أحوال البشر من حال إلى حال. وهكذا يبدو الأمر جاريا في بلدان عربية شتى حيث الثورات جارية في مراحل مختلفة، بعضها تعدى مرحلة الإطاحة بالحكم مثل تونس ومصر، وبعضها الآخر ما زال في مرحلة الصراع الأهلي مثل اليمن وليبيا وسوريا، والبعض الآخر لا يزال في مرحلة المناوشات الأولى التي يظن فيها الحكم أن الساعة لم تتعد بعد منتصف الليل، أما الشعب فإنه تأسيا بما حدث في بلدان أخرى يظن أنها آتية لا ريب فيها.

في كل هذه الأحوال فإن التفكير في اليوم التالي قليل للغاية. وفي الحالة المصرية حيث لم يكتف بالإطاحة بالرئيس ومعاونيه، ولكن تم وضعهم في السجن وأمام المحكمة، وبات ضروريا الاستعداد للمرحلة التالية، أو اليوم التالي. وبعد قرابة سبعة أشهر من الثورة فإن ما نجده ليس قريبا من هذه الحالة؛ وإنما حالة تعبوية من كل أطراف اللعبة السياسية في البلاد. المجلس العسكري يحاول أن يحفظ للبلاد عقلها، ويوفي بوعده لنقل السلطة في موعد معلوم. والقضاء، إحدى مؤسسات الدولة الرصينة، يحاول أن يفعل ما لم تفعله ثورة من قبل وهو أن يضع العصاة - أنصار النظام القديم - أمام قاضيهم الطبيعي فيحاكمهم بالقانون والعدل. والبيروقراطية كعادتها ثابتة رصينة، تطرح ما تعودت عليه من تشكيلات وزارية أو حركة للمحافظين. وعلى الجانب الآخر تتنافس قوى كثيرة على طرح مليونيات ذات ألوان متعددة بعضها ديني وبعضها مدني وثالثها خليط بين هذا وذاك. وسط ذلك كله فإن الإعلام والنخبة يعيشان حالة من صخب المتابعة، والتغني بالثورة تارة، وبمصر تارة أخرى.

والحقيقة أنه ليس مبررا أن تتغنى هذه القوى بمصر طوال الوقت، مرة بتاريخها، ومرة بحاضرها حيث الثورة والربيع العربي، ومرة بناسها الطيبين أصحاب المروءة والشهامة، ومرة بعبقرية المكان، وأخرى بالزمان، وحتى نصل إلى شخصيتها القومية. كل ذلك معقول ضمن حدود، ولا بأس به للاعتزاز بالهوية والانتماء. ولكنه من ناحية أخرى مضر للغاية لأنه يخفي عنا حقيقة مصر التي هي بلد متخلف وعاجز على مدى مائتي عام عن اللحاق بالدول المتقدمة التي بعد أن كانت أوروبية وغربية أصبحت آسيوية وشرق أوروبية ومن أميركا الجنوبية، وحتى بعض الدول الأفريقية. الحالة التي مصر عليها تجعل السؤال الأساسي هو كيف تلحق مصر بالعالم المتقدم؟ الثورة فتحت الباب للتقدم السياسي، والتعديلات الدستورية حققت اقترابا من نظام ديمقراطي. ولكن المهم أن لا تأخذنا هذه التعديلات إلى نظام ديني فاشي. وعلى كل الأحوال فسوف نرى ما سوف يحدث في الفترة القادمة سياسيا، ولكن لو نجحت مصر فإن الديمقراطية ليست سوى نظام سياسي يجعل عجلة الدولة شفافة ومسؤولة. والسؤال هو عن ماذا؟

هنا تأتي رؤية التقدم الذي سبقتنا إليه دول أخرى، وهنا فإن الغريب أن لا أحد في البلاد يناقش هذه المسألة حتى أنه تكاد تختفي كلمة التنمية سواء المادية أو البشرية؟ فلا أحد يناقش ماذا يريد حقا لمصر لأنها سوف تبقى كما هي حتى بعد محاكمة حسني مبارك وغيره. فالحقائق الأساسية عن مصر تظل كما هي: سوف تصل مصر إلى 90 مليون نسمة في العام القادم؛ منهم 28% لا يعرفون القراءة والكتابة، و21% منهم تحت خط الفقر، وشمال مصر متقدم عن جنوبها، ويعيش المصريون على 7% من المساحة الكلية للبلاد، ويهرب الشباب من مصر الحبيبة ويغرقون كل بضعة شهور على شاطئ من الشواطئ الأوروبية. سوف تخرج مليونيات كثيرة، وتنشر أعلام لا حد لها، وسوف تكون أغنيات وبرامج تلفزيونية تحب مصر وتتغنى بها، ولكن الحقيقة تبقى كما هي لا تنقص وإنما تزيد!!

الأمر ليس مختلفا كثيرا في تونس، وفي غيرها من البلدان العربية الثائرة منها وغير الثائرة حيث الفائدة الأساسية للثورة هي أنها تطلق طاقات البلاد من عقالها، وتزيح عن الطريق أقلية تحتكر السلطة وتمنع عملية الإطلاق هذه وتخل بتوزيع الثروة الاقتصادية، والسلطة السياسية. ولكن الثروة الاقتصادية والسلطة السياسية توجد في المجتمعات لهدف أو لأهداف مهمتها أن تأخذ البلدان من مكان إلى آخر ومن مكانة إلى أخرى.

الثورة في الدول العربية اعتادت أن تؤجل التفكير في هذه المرحلة إلى ما بعد الإطاحة بالسلطة القائمة؛ وذلك يخالف التقاليد الثورية في الدول الأخرى حيث تأتي لتحقيق أمور تختلف عما هو قائم وليس فقط الإطاحة بنظام الحكم. ولكن لو حتى جرى القبول أن السلطة العربية من الصعوبة بمكان من حيث الإطاحة؛ فإن جزءا من الصعوبة يكمن أساسا في أن القوى الثورية لا تقدم، فيما عدا المجال السياسي، بدائل حقيقية، والأخطر أنها لا تريد التفكير في البدائل الحقيقية.

المسألة هكذا قد تعطي الدول العربية التي وصلت فيها الثورة إلى عتبتها الأولى بأن تكون مهمتها التفكير في «اليوم التالي» دون تأخير حتى لا تعطي لقوى رجعية قدرة جذب الثورة إلى الخلف. أما في الدول التي لا تزال تجاهد في إطار من المناوشات والاحتكاكات فإن الفرصة قائمة أن تسبق السلطة القائمة قوى الثورة ليس فقط بتحرير العملية السياسية كلها، وإنما بطرح برنامج اقتصادي واجتماعي جاد للتنمية ومقاومة الفساد. أما الدول العربية التي لم تحدث فيها هذه العملية الثورية بعد، فعليها أولا أن تعلم أن هذه العملية سوف تأتي اللهم إلا إذا انتهزت الفرصة وسبقت جميع القوى السياسية والاجتماعية لإجراء إصلاحات جذرية وليست تجميلية. وإبان الثورة الفرنسية في أوروبا كانت الظروف شبه متماثلة من حيث النضج السياسي والاجتماعي، ولكن الفرنسيين خلقوا مجزرة كبرى، وأخلوا باستقلال القارة الأوروبية كلها على مدى عقدين من الزمان؛ أما بقية الدول، وخاصة بريطانيا فقامت بثورتها على طريقتها الخاصة التي امتزج فيها الإصلاح السياسي بالثورة التكنولوجية، بتعزيز المجتمع المدني، والتقدم الاقتصادي في آن واحد. لقد سبقت بريطانيا اليوم التالي حتى دون أن تقوم الثورة!