موازين القوى بين النظام السوري ومعارضيه

TT

لقد ورث الدكتور بشار الأسد عن والده نظاما سياسيا شديد الجمود والمحافظة، ومجتمعا خائفا شديد السلبية، واقتصادا ضعيفا على حافة الانهيار.. لذلك ومنذ اللحظة الأولى حاول تقديم نفسه كمنقذ للبلاد من خلال خطاب إصلاحي منفتح، فاعترف بوجود أخطاء، وأعلن برنامجا للإصلاح الاقتصادي على الطريقة الليبرالية، لكنه سرعان ما اكتشف أن الجهاز الإداري القائم لا يستطيع إدارة عملية الإصلاح، فأعلن عن برنامج للإصلاح الإداري، وترافق ذلك مع صدور العديد من التشريعات والقوانين المساعدة على ذلك. وأكثر من ذلك فقد تم تشكيل العديد من الفرق البحثية لتقديم رؤيتها لعملية الإصلاح وأولوياتها، فتشكل فريق عمل مهم لدراسة المسألة السكانية، وآخر لدراسة مسألة التعليم، وثالث لدراسة مسارات التنمية في سوريا حتى 2025، وغيرها كثير، لكن جميع هذه الدراسات التي أنجزها الباحثون وضعت في الأدراج وأهملت. لقد كنت من الذين شاركوا في هذه المشاريع البحثية، وكنت دائما أردد أمام الباحثين الآخرين أن الإصلاح في سوريا إما أن يكون شاملا أو لا يكون. ولكي ينجح الإصلاح الشامل ينبغي أن يبدأ بالإصلاح السياسي أولا.

لقد صُرفت أموال طائلة في سياق تنفيذ الخطة الخمسية العاشرة، ذهبت في أغلبها إلى جيوب الطغمة المالية الأمنية الحاكمة، بحسب ما صرح بذلك رئيس هيئة تخطيط الدولة في حينه (الرداوي) فكلفه ذلك أن أقيل من منصبه في اليوم التالي. في حقيقة الأمر لم يكن النظام جادا في الإصلاح الحقيقي خوفا على تهديم دعائم سلطته، فارتد على هامش الحرية النسبية التي سمح بها في بداية عهده (ربيع دمشق) وأغلق جميع المنتديات الحوارية التي انتشرت في جميع المدن السورية في حينه، وبدأت تشكل حاضنة لتوليد وعي سياسي جديد، على الضد مما تريده السلطة.

وبالتزامن مع الفشل الواضح في عملية إصلاح النظام حرصت السلطة على تماسك القوى الداعمة لها والتي تضم قوى النظام الأمنية، وأحزاب جبهته، ونقاباته على اختلافها، وتحالف البورجوازية البيروقراطية والطفيلية والكمبرادورية، والزعامات الدينية والعشائرية، وقوى الفساد على اختلافها. من بين هذه القوى فإن تحالف قوى النظام الأمنية مع شرائح البورجوازية المشار إليها هو الأقوى، وهو الذي سوف يمشي مع النظام إلى النهاية. أما البورجوازية التقليدية التي تضررت كثيرا من طبيعة النظام الطغموية، وسكتت طويلا على ممارساته الاقتصادية، فإنها يمكن أن ترتد عليه مستفيدة من الحراك الشعبي، ومن الظروف الدولية الملائمة لها. أما بالنسبة للقاعدة الاجتماعية للبعث والنقابات وهيئات المجتمع المدني والأهلي فإن مواقفها الفعلية هي أقرب إلى الحياد السلبي المتحفز لترك جبهة النظام في حال فشل الحل الأمني أو تراجع كما حصل في حماه ودير الزور ودرعا.

إلى جانب ذلك تحاول السلطة استثمار المواقف الخاطئة لبعض المعارضين السوريين في الخارج والاستفادة منها لتخويف وتحييد قطاعات مهمة من الشعب السوري لا تزال صامتة. نذكر منها تلك التصريحات التي تدعو للعنف، وإلى الطائفية، وتشجع على انقسام الجيش، وعلى تدخل القوى الدولية في الشأن الداخلي السوري، وكانت آخرها مقابلة عبد الحليم خدام مع التلفزيون الإسرائيلي.

يستفيد النظام أيضا من عمق الخوف المتراكم في نفوس قطاعات واسعة من الناس (فلا تزال أحداث أوائل الثمانينات حاضرة في الذاكرة)، وهو يعمل على ترسيخه من خلال التذكير دائما بما حصل في العراق بعد الغزو الأميركي له، وما يحصل في ليبيا اليوم من جراء تدخل حلف الناتو. وفي هذا المجال حاول النظام الاستفادة من ظهور بعض العناصر العنفية في الشارع، ومن بعض الشعارات الطائفية التي ظهرت هنا وهناك كحالات عرضية للحراك الشعبي، بغض النظر عمن يقف وراءها، لتمرير فكرة المؤامرة إلى وعي الكثيرين، وبالتالي لتعميق الخوف والسلبية لديهم.

يراهن النظام أيضا على استمرار سلبية وحيادية أغلبية الجماهير في الريف، ويعمل على تغذيتها لدى بعض المكونات الطائفية في المجتمع. ويستفيد النظام أيضا من تأييد فئات واسعة من الشعب السوري لبعض المواقف الوطنية للنظام في مجال السياسة الخارجية، وفي مقدمتها الموقف من القضية الفلسطينية ودعم المقاومات العربية، والمفاوضات مع إسرائيل بغض النظر عن كونها تعبر عن مواقف مبدئية أو أنها مجرد تكتيكات تؤمن له غطاء سياسيا لتحسين وضعه التفاوضي مع إسرائيل.ومن المهم في هذا المجال أيضا التذكير بالقبول الواسع لشخصية الرئيس في أوساط معينة من الشعب، والتفريق بينه وبين النظام، أو بينه وبين بعض الحاشية، لذلك عندما يجري الحديث عن الرئيس يذكر دائما بالإيجابية، اقتناعا أو خوفا، أما نقد الحاشية فبدأ يخرج عن نطاق الهمس.. لذلك كثيرا ما نسمع على مستوى الشارع من يقول أعطوا الرئيس فرصة، فهو جاد بالإصلاح، وهو ليس مسؤولا عن كل ما تعاني منه سوريا.

في مواجهة قوى النظام ينتفض بعض الشعب السوري متسلحا بعناصر قوة عديدة متنامية. بداية فهو ينظر إلى حراكه على أنه جزء من الثورات العربية، وقد جاء في سياقها، يستمد منها العزم على التظاهر السلمي، مقاوما خوفه، متحديا أجهزة أمنية لطالما أرهبته. الشجاعة والجرأة المستجدة هي عامل قوة لا يقهر.

ويرى، ثانيا، أن قضيته هي قضية عادلة، إنه يريد الحرية والكرامة، وأن يحكم نفسه بنفسه في إطار نظام ديمقراطي يختاره بإرادته. إنه يريد أن يكون جزءا من العصر، فاعلا فيه، لا متخلفا عنه، وعبئا عليه.

ويعتقد، ثالثا، أن الغالبية الساحقة من الشعب السوري تريد التغيير، وقد سئمت من النظام وفساده، لكنها لا تستطيع التعبير عن رغبتها هذه، لأسباب عديدة منها الخوف من النظام.

ورابعا؛ فهو يؤمن بأن انتفاضته في الشارع هي انتفاضة شعبية في حقيقتها، وفي دلالتها، وفي أهدافها، رغم محدودية المشاركين فيها، فهي لم تتحول إلى مظاهرات جماهيرية بعد، باستثناء مدينة حماه ومدينة دير الزور، مع ذلك فإن الرمزية العادلة لهذه المظاهرات تشكل عنصر قوة في مواجه قوة النظام الغاشمة.

ومع أن الظروف الدولية، ومواقف الأطراف الفاعلة فيها، على اختلاف اتجاهاتها، تؤيد عملية التغيير بتحفظ، خوفا مما يمكن أن يتسبب فيه سقوط النظام من فوضى عارمة في المنطقة، إلا أنه يعتقد أن القوى الدولية سوف تؤيد في النهاية عملية تغيير النظام. بطبيعة الحال يحاول النظام الاستفادة من حساسية الشعب السوري تجاه تدخل القوى الخارجية في شؤونه الداخلية لتخويف قطاعات منه وشل إرادتها عن النزول إلى الشارع والمطالبة بالتغيير.

لدينا إذن المعادلة الآتية بين القوى الفاعلة على الأرض: النظام وأجهزته الأمنية من جهة، في مواجهة انتفاضة بعض جماهير الشعب في الشارع مدعومة من القوى السياسية المعارضة وبعض النخب الثقافية، من الجهة الأخرى، مع بقاء الكتلة الرئيسية من الشعب صامتة. تتعرض هذه المعادلة لتغيرات مستمرة سوف تتسارع بلا شك بعد محاولة اجتياح حماه، المدينة ذات الرمزية الخاصة في الوجدان السوري. فاستخدام القمع وسقوط مزيد من الشهداء يشجع كثيرين على النزول إلى الشارع كاسرين حاجز الخوف. من جهة أخرى سحب الخيار الأمني من الشارع سوف يسرع كثيرا من نزول الناس إليه. هذا يعني أن النظام يبدو كبالع الموس، وهذا شيء طبيعي فهو المسؤول الأول والأخير عما آلت إليه الأوضاع في البلاد. في هذه المعادلة سوف يخسر النظام في النهاية وينهزم، لكن السؤال يدور حول الثمن الذي سوف يتم دفعه لقاء هزيمته، وهل ثمة قدرة على تحمله؟!

* كاتب سوري معارض