عبر ليالي شغب

TT

شرارة فورة الغضب التي عاشتها لندن الأسبوع الماضي، قد تعود إلى تصرف متسرع من أحد أفراد شرطة المدينة تسبب - بشكل مباشر أو غير مباشر - بمقتل شاب من أصول أفريقية واندلاع ما يمكن وصفه بانتفاضة «الغيتو» الأفرو- آسيوي في عدد من المدن البريطانية في حالة أشبه ما تكون بسيناريو أحداث الشغب التي شهدتها باريس خريف العام 2006.

رغم تشابه مسبباتهما وممارساتهما، قد تقف المقارنة بين أحداث باريس عام 2006 وأحداث لندن عام 2011 عند هذا الحد.

غياب الأجندة السياسية عن أحداث لندن يبرر اتهام العديدين لها بأنها كانت فوضى في سبيل الفوضى، إن لم يكن في سبيل النهب والسلب. ورغم طغيان الحضور الأفرو-آسيوي في المناطق والأحياء التي شهدت فورة الغضب هذه، لم تكن مبرراتها عنصرية بمقدار ما كانت عليه في باريس عام 2006. وإذا كان جائزا الحديث، في هذا السياق، عن تبدل عميق في التركيبة الديموغرافية للمجتمع البريطاني، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، جعل أحداثا كهذه ممكنة الوقوع، فذلك لا يستتبع التقليل من تأثير الخلفية الاجتماعية على الأحداث.

من الإنصاف التذكير بأن نظام التقديمات الاجتماعية في المملكة المتحدة لا يزال من أفضل الأنظمة في الديمقراطيات الغربية. إلا أن إقدام حكومة ديفيد كاميرون على خفض بعض هذه التقديمات وإلغاء بعضها الآخر حمل شريحة وافرة من البريطانيين أعباء معيشية إضافية في وقت يشكو فيه البريطانيون عامة من غلاء المعيشة ومن الضرائب «الخفية» التي تفرض عليهم وتتسبب بتآكل متواصل لدخلهم، فيما تسبب قرار آخر برفع أقساط التعليم الجامعي في حرمان العديد من الشبان من فرص الدراسة الجامعية.

قد تكون إحدى المساوئ المستترة للديمقراطيات الاجتماعية في الغرب أن تبقى شريحة واسعة من مجتمعها محرومة من جني مكاسب نظامها – كائنة ما كانت الأسباب الحقيقية - ما يفرز في أوساطها مشاعر انفصام اجتماعي عن الشريحة الأيسر حالا.

وربما كان افتقار الساحة السياسية البريطانية، حاليا، إلى حزب يساري حقيقي يتبنى مطالب «المحرومين» ويلاحقها في مجلس العموم (البرلمان) وفق الأقنية الديمقراطية المتبعة، أحد العوامل التي أدت إلى «تبني» الشارع، مباشرة، لهذه المطالب. ولا يخفى على أي مراقب للتحولات السياسية والحزبية في المملكة المتحدة أن العقد المنصرم شهد «تبرجوز» حزب العمال، بحيث بات الفارق «العقائدي» بينه وبين حزب المحافظين هامشيا. وكان من الطبيعي أن يزيد هذا «التبرجوز»، والتوق المتنامي لبلوغ سدة الحكم، تهميش الجناح اليساري للحزب.

إلا أن خلل هذه المرحلة الزمنية في بريطانيا قد يعود إلى التباين الواضح بين أولويات الشارع وأولويات الحكومة، ففيما يبدو الشارع حريصا على المحافظة على مكاسبه الاجتماعية وعلى تعزيزها، تركز الحكومة أولوياتها على خفض عجز الموازنة.. الأمر الذي يستوجب، حكما، تقليص الإنفاق العام.

والسؤال الذي يطرح نفسه في هذا السياق هو: أي إنفاق أبدى من غيره بالتقليص في ظروف بريطانيا الراهنة؟

بعد ليالي الشغب بات واضحا من تنديد العديد من الصحف البريطانية بقرار خفض عديد الشرطة البريطانية أن حكومة كاميرون تواجه خيارين على طرفي نقيض: إما الإنفاق على الاحتياجات الأمنية وإما الإنفاق على المتطلبات الاجتماعية. والمفارقة التي يثيرها هذا الخيار هي أن المطالبين بتقديم الإنفاق الاجتماعي على الإنفاق الأمني هم الذين يرجحون خيار الإنفاق الأمني بخروجهم على اللعبة الديمقراطية وترويعهم الآمنين في شوارع لندن.

رغم ذلك، أثبت الاحتواء السريع لأعمال الشغب، والمدعوم برأي عام جارف مستنكر لممارسات العنف، أن المنحى الديمقراطي في المملكة المتحدة طريقة حياة قبل أن يكون نظاما سياسيا.

ولكن عبرة «انتفاضة الغيتو» قد تكون بإمكان هذه الديمقراطية مطالبة المواطن البريطاني بتقبل تضحيات لصالح الدولة.. ولكن بشرط أن يشعر بأن هذه التضحيات سوف تتحملها، بالتساوي، شرائح المجتمع البريطاني كلها.