مقايضة.. فتعوم «مصر الثورية»

TT

على هامش المتابعة بالكثير من التأمل الممزوج بالكثير من الإحباط والكثير الكثير من مشاعر التفجع، لما يحدث في الأمتين العربية والإسلامية، يستغرب المرء كيف أن الذين في قمة المسؤولية واتخاذ القرارات لا يراعون أننا في شهر الرحمة والتراحم والشهر الذي من مصلحة من يمسك بمقاليد السلطة أن يستحضر من العبر ما يقلل عن عينيه لاحقا العبرات. ومن هذه العبر أنها لن تدوم لحاكم كونها لم تدم لغيره، وأن الذي يبقى هو الفعل الحسن والمعاملة الطيبة والإيمان بالوطن ونبذ عبادة الشخص لنفسه والتصرف على أنه فريد زمانه وأنه إحدى نعم الله سبحانه وتعالى (هو يفترض ذلك) خص بها شعب هذا النرجسي.

وإذا كان الحاكم لا يراعي في بعض أشهر السنة الأمور التي يؤخذ عليه عدم مراعاتها، فإن عليه بالنسبة إلى شهر رمضان بالذات وكذلك شهر محرم، اعتبارهما الفرصة التي لا تعوض يغسل فيهما ذنوبا إذا كان أذنب وهو بالفعل اقترف الكثير من الذنوب لأنه لم يحكم بالعدل، ويعوض بالمبادرات الطيبة نحو الناس وبالذات أولئك الذين كانوا أعزاء قوم وشاءت الأقدار أن يصبحوا أذلاء، أوزارا تشكل ما يجوز اعتباره ضريبة سوء تعامل ارتبط بشخصه وهو جالس في قمة السلطة التي يملكها وليس بما يمليه التعقل والتصرف الحكيم.

ويأسف المرء كثير الأسف كيف أن رمضان هذه السنة شهد في بعض أقطار الأمة الحاكم غير الحكيم الذي لم يستحضر في إدارته لشؤون البلاد والعباد معاني شهر الصوم وبالذات إضاءات هذا الشهر لجهة الرحمة والتراحم والتسامح وتقديم مشاعر الود على الغرائز الثأرية والرغبة في التعامل الثأري وبشيء من التلذذ. فالذي تابعناه يجري في حق الرئيس السابق حسني مبارك مع بداية شهر الصوم ثم مع حلول العشر الأوائل من الشهر كان صادما، ذلك أن مشهد الجلسة الأولى للمحاكمة لا يخرج عن كونه جولة ثأرية من رجل كان على مدى عقدين من الزمن المصري رئيسا لا خلاف عليه ثم اقتحمت عقده الثالث بعض الخطايا والكثير من الأخطاء لكن ذلك لا يعني أن تكون محاكمته مثل حلقات بعض المسلسلات الرمضانية. وأيا كان حجم الضغوط على «المجلس الأعلى للقوات المسلحة» من جانب «الأطياف الثورية» فإن ذلك لا يعني أن تتم المحاكمة على نحو ما حدث في الجلسة الأولى. وفي تقديري أن عسكريين كثيرين من أصحاب الرتب القيادية تساءلوا بعد الذي شاهدوه: إذا كان سلوك غير سوي في زمن الترؤس لا يراعي الاستبسال في مهمات عسكرية في زمن مصيري مثل زمن حرب أكتوبر 1973 فلماذا إذن الاستبسال إلى درجة التضحية المحتملة بالنفس، وهو ما كان يمكن أن يصيب حسني مبارك عندما كان يحلق جوا وتحقق طائرات سربه انتصارات نوعية. ونحن في ما نقوله افتراضا لا نخفف من فداحة الخسائر التي منيت بها مصر في السنوات الأخيرة من الولاية الثالثة له، ولكننا في الوقت نفسه نفترض أن دقة التصويب لدى حسني مبارك كطيار شجاع أوجدت في نفسه شعورا بأنه مهما فعل، بعدما تحقق نصر أكتوبر وورث الرئاسة بفعل اغتيال الرئيس أنور السادات الذي كان كافأه عام 1974 بتعيينه نائبا للرئيس، فإن ذنوبه مغفورة مكافأة مضافة له، إلى جانب المكافأة الأولى، وعلى أساس أن الأمور تقاس بما كانت عليه الحال في مرحلة ما قبل «حرب رمضان» وليس بما آلت إليه الأمور.

المهم أنه في رمضان 2011 يحاكم حسني مبارك الذي كان بطلا في رمضان 1973. في رمضان ذلك الزمن الماضي كان يحلق في سماء سيناء التي كان كعسكري طيار من بين الذين ساهموا في تحريرها. وفي رمضان 2011 ينقل على نقَّالة إلى المحكمة في مبنى كان يحمل اسمه وأُزيل الاسم في حملة إزالة كاملة لمواقع ومؤسسات تحمل اسمه.. ومن دون أن تكون هناك وقفة من جنرالات المجلس وقضاة المحكمة توازن وفق قاعدة من يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره.. إلا إذا كان الذين ارتضوا المحاكمة والذين أداروها ومعهم أطياف الشعب المصري يرون أن مثقال ذرة الخير ناله حسني مبارك عند ترئيسه وقبل ذلك عند تعيينه نائبا للرئيس دون غيره من جنرالات الحرب البواسل ومنهم الفريق سعد الدين الشاذلي رحمة الله عليه، وأن مثقال ذرة الشر يجب أن يناله، مع أن الأخذ بمعادلة خير هذا بشر ذاك. يكون الأمر أفضل للمحروسة التي كانت سنوات ترؤس مبارك لها مزيجا من حلاوة الانفتاح المستعجل والعشوائي الموروث عن سنوات الرئيس (الراحل) أنور السادات ومرارة النهب المنظَّم والجشعوائي تولاه مسؤولون خسروا نعيم الآخرة بسبب جشعهم الذي فاق التخمة مقابل أطماع الدنيا والثروات المليارية في بلد يتلوى أكثرية أبناء شعبه من وطأة الحياة غير الكريمة وغير الإنسانية.

ومرة أخرى يجد المرء نفسه يتساءل: ألم يكن الأجدى لو أنه بدل هذه الشوشرة التي لا طائل منها أبرمت «السلطة الثورية» صفقة مع المغضوب عليهم. وبموجب الصفقة يتنازل وبالرضا ومن دون تحايل كل المتهمين بدءا من الرئيس السابق وولديه وكل وزير ومسؤول اكتنز دون وجه حق أو رحمة أو خوف من رب العالمين ومن حرص على الوطن عن الثروات والممتلكات التي جنوها أو اغتنموها خلال عملهم الرسمي ويتم وضع هذه المبالغ في صندوق دعم الخزينة والمحتاجين ودفع دية لذوي كل من قضى في لحظة عدوان أو غضب أو نتيجة تعذيب.

إن مثل هذه المبالغ المليارية استنادا إلى ما قيل ونشر، وفوقها مليارات السماسرة وتجار السوء كفيلة بتعويم الوضع المالي المتعسر، وإنعاش أحوال ذوي الضحايا.. ومن السهل تحقيق ذلك لأن القابعين وراء الأسوار وقضبان المحكمة سيرون أن كل ليلة سجن أو أيام هروب في الخارج تساوي مال الدنيا وأن التكفير عن الذنوب وما أكثرها يمكن من خلال التنازل عن أموال وممتلكات هي في الأصل حرام. وبالتذكير مع الذي حصل مع السيدة سوزان مبارك التي تنازلت وقوبل التنازل بالموافقة على المقايضة أي المال والممتلكات مقابل عدم المثول أمام محكمة أو الإيداع في السجن، فإن ما نقوله ممكن. وفي استطاعة فتوى من أهل الفتوى واجتهاد قانوني من جانب المستشارين القضاة استنباط التخريجة المناسبة، فضلا عن أن «الانفجار الثوري» لم يكن لتحفظات على السلوك الوطني للنظام ولا على المعاهدة المبرمة مع إسرائيل وإلا كان من المنطقي محاكمة عهد السادات ومعظم رجال ذلك العهد الذي أورث مصر عهد مبارك، ولم يحدث ذلك «الانفجار الثوري» إلاَّ بعد الذي قيل في صحيفة بريطانية مهمة (الغارديان) سبق قوله في صحيفة جزائرية على قد الحال (الخبر) عن ثروة مليارية للرئيس مبارك. وبذلك لا تعود مصر حائرة في أمر أحوالها الصعبة ماليا وضميريا. فالعقاب حصل من خلال حلقات «المسلسل الرمضاني الثوري». وإذا حصلت المقايضة المشار إليها وانتعشت الأحوال عندها يصح القول: كفى المصريين مساوئ التمثيل بأنفسهم.