1688

TT

كثيرا ما ينتقد البعضُ البعضَ الآخر الذين دعوا الأمريكان لغزو العراق. كيف تخونون وطنكم وتجلبون الأجنبي؟ ينسون أن معظم التاريخ بل وتقدم البشرية اعتمد على غزو الأجنبي، وغالبا بدعوة من السكان وتعاونهم. هكذا انتشر الإسلام وقامت الإمبراطورية العربية ونشأت الحضارة الإسلامية. من صفحات ذلك دعوة الإنجليز لهولندا لغزو بلادهم وإطاحة حكومتها عام 1688.

يرتبط الكثير من الحروب والثورات والاضطرابات بموضوع الضرائب، ذلك الإجراء الكريه لكل الناس. لا أحد يحب دفع الضريبة. وعلى هامش الضريبة وبصددها جرى تطور الديمقراطية في بريطانيا. هكذا انتزع الإنجليز «العهد الأعظم»، أول وثيقة في تطور الحياة البرلمانية، من الملك جون عام 1253. استمر الصراع بين البرلمان والملك بصدد دفع الضرائب. تفجر الموضوع مرة أخرى في القرن السابع عشر. استطاع آل ستيوارت الالتفاف على الدستور والقانون للحصول على ما يلزمهم من ضرائب. وكره البرلمان ذلك. وعندما عمد الملك الكاثوليكي جيمس الثاني إلى مناصرة هذا المذهب وجد الإنجليز سببا آخر للوقوف في وجهه. استنصروا بوليم أورنج، ملك هولندا البروتستانتية، ليأتي بأسطوله ويغزو بلادهم ويخلصهم من جيمس الثاني. تفاوضوا معه على حكم بلادهم وفق الشروط التي وضعوها. وكان منها أن يترك موضوع الضرائب والميزانية للبرلمان ولا يتدخل فيه. نزل الجيش الهولندي في بريطانيا وزحف على لندن. ولما أدرك الملك أنه سيخوض معركة خاسرة ترك البلاد ورحل لفرنسا في 1688. تسلم وليم أورنج العرش دون إطلاق رصاصة واحدة. فسمى الإنجليز هذه الحركة بالثورة المجيدة Glorious Revolution لأنه لم تسفك فيها قطرة دم واحدة.

بادر العهد الجديد إلى تقليص الضرائب ونفقات الدولة وإعادة تنظيم الاقتراض بما أدى إلى تكدس الثروات بيد الرأسماليين فاستعملوها في تطوير الصناعة والتجارة والتكنولوجيا والتوسع الإمبريالي بما أدى إلى وقوع خُمس العالم بيد الإنجليز، وأخيرا قيام الثورة الصناعية.

يرى الكثير من المؤرخين الاقتصاديين أن الثورة المجيدة التي أدت إلى نمو الثروة الوطنية عبر نمو الرأسمالية واقتصاديات السوق هي التي أدت لكل هذا الازدهار الاقتصادي في بريطانيا ومن ورائها أوروبا وأميركا، وتقدم الديمقراطية والفكر السياسي وقيام المجتمع المدني وكل ما ارتبط بالعلمانية والليبرالية وأخيرا الإصلاحات الاجتماعية التي أعطت الطبقة العاملة قسطا من الثمرات بعد عقود من الشقاء والتضحيات.

عام 1688 هو العام الذي قامت عليه الحضارة العالمية المعاصرة، وليس عام 1789 (الثورة الفرنسية) أو عام 1917 (الثورة البلشفية).

ما دعاني لفتح هذه الصفحة من التاريخ الغربي هو اعتقادي في السنوات الأخيرة أن الفشل الذي أصاب الكيان العربي في الدول الثورية، مثل العراق وسوريا ومصر والسودان وليبيا، يعود لحد كبير إلى وقوع الحكم والدخل الوطني بيد العساكر وأصحاب الآيديولوجيات الذين ضايقوا الرأسمالية العربية الناشئة بما أدى إلى هروب الأموال والكفاءات والاستثمارات وقتل روح المبادرة والمخاطرة والتنمية في نفوس أصحاب الأموال.