«بيت الصمود»

TT

تمتلئ ليبيا بالخرائب والآثار الرومانية واليونانية التي تشكل متحفا رائعا في الهواء الطلق. ولكن طوال عقود لم يعرض صاحب الأنا البالونية على الناس والعالم سوى خرائب «بيت الصمود» في باب العزيزية. وعندما اختار أن يلقي خطابه الأول بعد الثورة وقف على سطح «بيت الصمود». ثم على شرفة «بيت الصمود». ثم غاب عن الأنظار وبقي على السمع. وعندما وصل الثوار ذهبوا أولا إلى «بيت الصمود»، يحطمون صورته المشوهة وأعمدته الممزقة ورمز الإلحاح واللجاجة.

من هذه الشرفة نعت شعبه بالجرذان. ومن هذا البيت نعت معارضيه «بالكلاب الضالة». فإذا بالأخ قائد الفاتح العظيم ضال هو، لا يعرف مكانه أحد. كان هذا بيت التجبر والغرور. البيت الذي منه ألغيت ليبيا، بتاريخها ورجالها، وأعلنت خيمة لرجل واحد، يصول في ثرواتها، ويحول أهلها إلى المنافي والسجون، ويمضي الوقت أمام المرآة، ينتقي ألوان العباءات والأوسمة.

قالت سيدة ليبية للمراسلين في طرابلس: «كنت كلما سئلت من أي بلد أنا، أشعر بالخجل. الآن أعود إلى الاعتزاز». في بداية الثورة كتبت صحافية شابة في «ملحق النهار» أنها مسمرة أمام التلفزيون في انتظار إعلان سقوط القذافي. ربما كان هذا الرجل أول مسؤول في العالم، لا يجد من يأسف لذهابه. أربعون عاما من التعالي والتكبر لم يتجاوزها سوى نجله سيف، بكامل الأزياء وكامل التعابير: «كانوا يأتون إلى هنا ويلعقون أحذيتنا»، و«طز بالمحكمة الجنائية». أنا آسف لنقل هذه الكلمة، التي لم أسمعها في مكان مذ كنا نلعب في الشارع صغارا. ولم يكن جميع الأطفال يرددونها بل القلة منهم.

الأخ قائد الثورة جعل الجماهير ترفع هذه الكلمة على يافطات في شوارع طرابلس. لم يحدث ذلك في أي دولة أخرى مهما بلغ انهيار المستويات فيها. قلب هذا الرجل حياة الليبيين في كل شيء. لوثت تعابيره الخطاب السياسي العربي. كان يقهقه في المقابلات التلفزيونية عندما يسأل عن ضحاياه، قهقهة تحرك العظام المظلومة وتحرق قلوب الأبناء والأرامل.

انتهت حكاية «بيت الصمود» في الدماء التي بعثرها حوله بلا حساب. كان المهم أن يبقى هو، الأخ قائد الفاتح العظيم، يوم استولى على ليبيا وقبض على ثرواتها وحياتها وأطبق على أنفاسها ولم يتوقف لحظة عن الهزل والقهقهة. كانت الفضائيات تسر ببرامجه الهزلية وتضحك له. وها هي تقدم الآن تصوير الفرح والقهقهة في «بيت الصمود», وتنقل صور «الكلاب الضالة» وهي تبحث عنه في كل مكان.