فرسان العروبة الليبيون

TT

لم يعد في العرب معتصم لينادوه فيجيش الجيوش، وجامعتهم لا تستحق إلا قرارا بإلغائها غسلا لمواقف سجلت عليها. وأزهرها تورطت قيادته بمواقف وتصريحات تبنتها في لحظات وهن بعد سقوط نظام الرئيس مبارك بسبب علاقتها المعروفة. وكثير من زعماء الأمة أفقدتهم الحيرة والخوف القدرة على المبادرة، وفقدت الشعوب النخوة خارج نطاق الحدود القُطرية. فانتفض شباب ليبيا نافضين عنهم غبار السنين ليحصلوا على وسام فرسان عروبتهم بلا منازع.

لقد قاومت ليبيا كلها مقاومة مشرفة، وحتى النظام الساقط طاول خمسة أشهر من القصف والضغوط في حالة قد لا تتكرر في بلاد الشرق، فعكست مطاولته حجم الضغوط التي كان يوجهها إلى المعارضين والثوار، الذين حظوا بمساندة غربية وعربية مميزة، أجبرهم الاستبداد الداخلي على قبولها.

معركة الثلاثين ساعة لاقتحام طرابلس سطرت دروسا تستحق البحث والتحليل من قبل المظلومين والمستضعفين والمعارضين في بلاد الشرق، وكذلك من قبل العسكريين ورجال الأمن ومراكز البحوث والتحليل والدراسات الاستراتيجية. وخلال الأيام القليلة الماضية خشيت أن يكون عنوان مقالي السابق «واقتربت مرحلة سقوط العقيد» قد جانب الصواب، خصوصا بعد اغتيال اللواء عبد الفتاح يونس. لكن الثوار تمكنوا من قلب عواقب الاغتيال إلى صفحة اندفاع كبير لا مثيل له، والقذافي كان على علم بأن هناك تصميما على إسقاطه خلال شهر رمضان، وهو ما صرح به رئيس الحكومة.

ثلاثون ساعة أثبتت أن نظام القذافي تحول إلى هيكل منخور وسقط بشكل مذهل. وأثبتت قيادة مصطفى عبد الجليل أنها على مستوى المسؤولية بتنسيقها مع قائد حماية طرابلس، الذي فتح أسوار المدينة أمام الثوار. مما يدل على وجود اتصالات سرية ترتقي إلى مستوى عمليات استخبارات عميقة وناجحة للمجلس الحق في أن يفخر بها، حتى لو ساعدته أجهزة أخرى.

خلال ستة أشهر تمكن الثوار من تنظيم صفوفهم وتهيئة وحدات قتالية نشطة. وأكثر ما جلب الانتباه ذلك الموقف القطري الشجاع بإرسال شحنات معدات قتالية علنا. وتمكن الثوار من استيعاب أسلحة ثقيلة كالدبابات وقاذفات الصواريخ والمدفعية خلال وقت قصير، فيما تحتاج جيوش إلى سنين لبلوغ التكامل. وحولوا سيارات مدنية إلى معدات قتال سريعة ومؤثرة.

في الشهرين الأخيرين بنى الثوار وحدات قتالية يفترض أن تستخدم في فرض الأمن ومنع أعمال البلطجة والنهب والسلب والانتقام، التي لم تظهر حتى الآن كما ظهرت في تجارب أخرى. وهي علامة تبشر بكذب ما كان يروج عن احتمال تفتت ليبيا وانزلاقها إلى حروب أهلية. فالشعب الليبي له ما يميزه بوحدة الهوية أكثر من غيره.

لقد كان واضحا عدم قدرة نظام العقيد على مجابهة الضغوط السياسية والاقتصادية والنفسية والعسكرية، وفي كل يوم كان النظام يفقد شيئا غير قابل للتعويض، فبدأت قواه وهياكله بالتآكل، دافعا ثمنا باهظا عن تبنيه سياسات ألحقت بالأمة أضرارا بالغة، فتدخل بالقيم والمعتقدات والمبادئ والتوازنات بطريقة سلبية تجاوز بها حدوده أكثر مما يحتمل ضمن النطاقين الإقليمي والعربي، وبقيت أخطاؤه وتجاوزاته قائمة كما ابتدأها قبل عقود. هذا فضلا عن عملياته الإجرامية ذات الطابع الدولي. وهذا كله جعل الشعب الليبي مضطرا لقبول التدخل الخارجي، الذي لولاه لكان على المظلومين دفع ثمن أشد قسوة.

وحدة الشعب الليبي تحتم طي صفحة الماضي دفعة واحدة كما فعل أكراد العراق في ما بينهم دفعة واحدة، متجاوزين أشياء كثيرة تتعدى كل ما وقع على الساحة الليبية. فطي صفحة الماضي عدا بحق حفنة ممن يجب محاسبتهم خطوة كبيرة تليق بالفرسان والثوار المنتصرين. ومن الخطأ الانشغال وإشغال الناس بمظاهر المحاكم ومراسمها. فالديانات السماوية كلها بنيت على التسامح، والأنبياء والرسل والقادة العظماء كلهم كانوا متسامحين.

وإذا ما نجح الثوار في منع ظهور تجمعات من الغوغاء والحرامية الذين تعج بهم بلدان عربية، وإذا ما نجحوا في عدم الاستماع إلى صيحات المتشددين، فستتحول ليبيا إلى واحة خضراء وورشة عمل كبرى خلال فترة وجيزة. وإذا ما سارت الأمور وفقا لما ينبغي فستسجل قصة إسقاط القذافي كحالة نادرة تختلف عن كل ما حدث، بسبب إصراره على الاستخدام الواسع للقوة، خلافا لما حدث في تونس ومصر، حيث حرص الحاكمان على عدم الإفراط في استخدام القوة؛ فأحدهما هرب، والآخر قبل السجن بكبرياء كبار القادة.