ليبيا: صندوق باندورا أم صندوق مجوهرات؟

TT

في الوقت الذي يظهر فيه هذا المقال، ربما يكون الطاغية الليبي معمر القذافي في أي مكان.

ربما يكون في موريتانيا، حيث نشرت أخبار عن امتلاكه استثمارات ضخمة فيها، أو في جنوب أفريقيا. وماذا عن فنزويلا حيث يتولى «صديقه الحميم» هوغو شافيز مقاليد السلطة؟ ربما يكون أيضا في قبضة الثوار الذين استولوا على عاصمته.

ورغم ذلك، فإن الحقيقة هي أنه، على المستوى السياسي، أيا كان المكان الذي يقبع فيه، فإنه في اللامكان. الأذى الذي قد ألحقه بشعبه خلال الأشهر الستة الماضية كان آخر فصل من فصول أعمال العنف الوحشية التي قام بها على مدار حكمه الذي استمر 42 عاما.

الأمر المهم الآن هو السعي لكي لا ينتهي الحال بليبيا أن يحكمها قذافي آخر أو نسخة «أخف تأثيرا» من العقيد الذي دأب على الظهور بمظهر المهرج.

ومع ذلك، سيكون من السذاجة الاعتقاد بأن ليبيا ما بعد القذافي ستغير من منهجيتها تماما، وستمضي قدما في الطريق نحو إرساء الديمقراطية. فثمة إمكانات محدودة في المجتمع الليبي يمكن أن تساعده في التحول إلى الديمقراطية، ذلك المجتمع الذي يحاول الخروج من جعبة منهجية القذافي سعيا لتحقيق تلك الرؤية.

وستكون المقارنة بمصر وتونس خادعة. ففي مصر، كان هناك مقدار طفيف من مبادئ الديمقراطية الأولية قبل أن يتولى عبد الناصر السلطة. وكان الاتصال بأوروبا الغربية أحد الأسباب التي قد مكنت النخبة المصرية على الأقل من التلاعب ببعض الأفكار الديمقراطية على مدار 150 عاما. وقبل أن يفرض زين العابدين بن علي دولته البوليسية، عاشت تونس في ظل الحكم المطلق للحبيب بورقيبة، والذي رغم كونه بعيدا كل البعد عن الديمقراطية، فإنه لم يكن استبداديا. وربما يكون الأمر الأهم هو أن وجود مليون مهاجر تونسي في أوروبا الغربية وأميركا الشمالية، الذين يزور كثير منهم تونس كل عام، خلق ارتباطا إنسانيا بعالم مختلف.

في ليبيا، الموقف مختلف. فمعظم الليبيين لم يعرفوا شيئا خلاف الحكم المطلق الاستبدادي. ونحو ثلثي الشعب الليبي لم يكن حتى قد ولد حينما استولى القذافي على مقاليد السلطة. وبعيدا عن الجمعيات الصوفية، لا يوجد في الدولة سوى عدد محدود من المؤسسات المدنية. ولم تتشكل بها على الإطلاق أحزاب سياسية ذات ثقل. كما لم تتمتع بوجود إعلام حر وقوي، ولو حتى لفترة قصيرة، ومن ثم، فالاتجاه الحالي للمجتمع الليبي يميل نحو الديكتاتورية لا الديمقراطية. وليس من قبيل المصادفة أن غالبية أعضاء المجلس الوطني الانتقالي، الحكومة المؤقتة حاليا، من المنشقين عن نظام القذافي.

وهذا لا يعني أن الأفراد المعنيين سيئون بالضرورة. ما يعنيه هذا هو أن ليبيا بحاجة إلى نظام حكومة يحرم فيه الرجال الأشرار من أي فرصة لإلحاق الضرر بالآخرين وإيذائهم. إن النظام السيئ الذي يديره خيرة الرجال نادرا ما يحقق أي نفع، في حين أن أسوأ الرجال لا يمكنهم أن يلحقوا بأي نظام جيد سوى ضرر طفيف جدا.

وفيما يتعلق بليبيا، يجب أن تكون القاعدة الأولى هي: لا تلحق أي ضرر. يجب ألا يفترض أي شخص أن ليبيا صفحة بيضاء يمكن أن ترسم عليها صورة لمجتمع مثالي. على مدار الأسابيع الماضية، شهدنا عشرات من «المسودات» لليبيا مثالية في المستقبل. حتى إن بعضنا قد دعي من قبل الحكومة الفرنسية للمساعدة في وضع «مشروع لمجتمع» داخل ليبيا ما بعد القذافي. (بالطبع رفضنا).

لم يكن العيب الوحيد لنظام القذافي أنه لم يكن ديمقراطيا. ففي المقام الأول، الديمقراطية طريقة حديثة نسبيا للحكم. التاريخ البشري يزخر بمجتمعات ناجحة تماما، وإنسانية نسبيا، في حين أنها ليست ديمقراطية.

العيب الأساسي في نظام القذافي أنه لم يكن ليبيا، من حيث إنه لم يكن مرتبطا بشكل أو بآخر بالتاريخ الليبي أو بالثقافة والأحاسيس والمدركات الليبية. كان اختلاقا، أو أكذوبة فرضت على الشعب الليبي. وبدءا من اسمها في حد ذاته، فإن كل شيء يتعلق بهذه الجمهورية كان مجرد أكذوبة. كذب «المرشد الأعلى» على شعبه، وكذب الشعب عليه بالتبعية. كان ما حققه القذافي على مدار 42 عاما هو تدمير الحكومة الليبية.

أي نظام حكومي يجب أن يعكس تاريخ ومطامح وحقائق المجتمع الذي يدعي أنه يديره. لم يفعل نظام القذافي شيئا من هذا القبيل.

ولكي يحظى أي نظام بمصداقية، يجب أن يكون له منطق داخلي وأن يحترم قواعده وقوانينه. فشل نظام القذافي على المستويين. وعلى مدار 4 عقود، اعترف الكثير من الشخصيات الليبية رفيعة المستوى، من بينها سيف الإسلام ابن القذافي لكاتب هذه السطور، بأنها عجزت عن تحديد المنطق الداخلي الذي يقوم عليه هذا النظام. كما تعين عليهم الاعتراف بأن القواعد التي اعتقدوا أنها راسخة يمكن أن تتغير حتى في الوقت الذي يتحدث فيه شخص ما عنها.

بالمقارنة، كان للاتحاد السوفياتي السابق منطق داخلي واحترم القواعد التي حددها لنفسه كنظام حكم. وحتى تحت حكم ستالين، لم يكن من الممكن أن «يختفي» مسؤول رفيع المستوى بشكل مفاجئ من دون عقد مناقشات في المكتب السياسي، وفي معظم الحالات، عقد محاكمة شكلية على الأقل. ولم يتمكن «الرجل الحديدي» من تغيير أي سياسة رئيسية بدافع من هوى شخصي.

ويعتبر النظام الشيوعي الحالي في الصين مثالا آخر. فهو ليس نظاما ديمقراطيا في حقيقة الأمر - وفي هذا الخيار، يمثل صفقة خاسرة بالنسبة للشعب الصيني - لكن رغم ذلك، فإن له منطقا داخليا ويحترم معظم القواعد التي يضعها.

ومع رحيل القذافي المنتظر، أزيح الغطاء عن صندوق الألغاز الليبي. لا أحد يعرف ما إذا كنا قد فتحنا صندوق باندورا أم صندوق مجوهرات ظل مغلقا لأمد طويل من قبل ساحر شرير.

أفضل عمل يمكن القيام به هو إتاحة الفرصة لليبيين لأن يتحدثوا ويستمعوا إلى بعضهم بعضا وإلى بقية بقاع العالم، وأيضا فرصة أن يتم الاستماع إليهم. فطوال أربعة عقود، لم يكن يُسمح إلا بسماع صوت واحد في ليبيا، هو صوت العقيد القذافي. دعونا نرى ونبحث عما إذا كانت هناك أصوات أخرى، وإن وجدت، علينا أن نحدد ما إذا كانت جديرة بأن نستمع إليها بإنصات أم لا. فقبل السعي إلى انتهاج مسار ديمقراطي، يتعين على ليبيا علاج مشكلة النقص في الحريات.