ما يقتضيه الإصلاح

TT

لا بد أن القراء لاحظوا في الأيام الأخيرة، وكل الأيام، أنني أكثر من الاستشهاد بالتاريخ الأوروبي، وقلما أشير للتاريخ العربي. الواقع أن معلوماتي عن تاريخنا لا تزيد عما قرأته في المدرسة وسمعته في المقاهي ومن والدي رحمه الله. وإلا فأنا لا أقرأ التاريخ العربي. والسبب هو أنني لا أعرف صدقه من كذبه. لقد وجدته سلسلة من الروايات والادعاءات التي ينقض بعضها البعض ولا يسندها أي دليل أو وثيقة. يصدق ذلك على مذكرات معظم قادتنا المعاصرين. إننا أمة تعتز بالشعر، والشعر يعلم الإنسان الخيال والمبالغة والكذب. قالوا أحسن الشعر أكذبه. وقد اكتسبت هذه العادة السيئة التي تزعج الكثير من أصحابي، وهي شرودي وعدم الإصغاء للناس. والسبب هو أنني لم أعد أثق بمصداقية ما يقولونه. أصغي إليهم عندما يروون نكتة أو طريفة. وعندما يقولون شيئا جادا عن شؤون بلادهم أستمع إليه في إطار النكتة والفكاهة.

الأهم من كل ذلك، أن شؤوننا السياسية والاقتصادية المعاصرة لا تقوم في أكثر بلداننا العربية والإسلامية على تراثنا وإنما على التراث الغربي، كالبرلمان والدستور والانتخابات والاستفتاءات والفيدرالية ومجلس الوزراء والمجالس البلدية والميزانية العامة وأنظمة الضرائب والقروض ومنظمات المجتمع المدني كالنقابات. وباستثناء الأحوال الشخصية، تقوم كل قوانيننا وأنظمتنا على الشرائع الغربية. قانون العقوبات البغدادي مثلا، وضعه الانتداب البريطاني، والقانون المدني أخذناه من القانون المدني الفرنسي. وفي كلية الحقوق درسنا القانون الروماني، أساس الشرائع الغربية التي غدت أساس شرائعنا. وبالطبع ارتبطت كل دولنا العربية والإسلامية بمواثيق الأمم المتحدة كوثيقة حقوق الإنسان، والاتفاقيات الدولية، كاتفاقية جنيف.

كل هذه الأمور تقوم على تجارب الغرب وليس على تجاربنا وعلى نظريات فلاسفتهم ومفكريهم، مكيافيللي ولوك وروسو ومونتسكيو وفولتير وآدم سميث، وكارل ماركس، وجون ستيوارت مل وتوم بن وسواهم. لا شيء فيها يقوم على فتاوى فقهاء الأديان السماوية الثلاثة.

لا بأس إذا قررنا تجاهل قيمهم وأساليب الحكم والإدارة الغربية ورفضناها. ولكننا إذا تقبلنا قيمهم وديمقراطيتهم وأساليبهم فعلينا تثقيف أنفسنا بأفكارهم وتاريخ تطور هذه القيم والأساليب، أي تاريخهم. من هذا المنطلق، كتبت قبل آونة في الصحف العراقية سلسلة من المقالات بلغت نحو أربعين حلقة عن تطور الديمقراطية في الغرب. ليس في تاريخنا العربي ما يصب في هذه المحصلة. بل العكس، تاريخنا يعلمنا أن الاغتيال والإرهاب والتآمر والاستسلام للحكم الفردي الطائش أساليب مقبولة وتراثية. يجري كلام كثير عن الإصلاح في العالم العربي. يجب أن تكون أول خطوة في هذا المسعى إصلاح المناهج الدراسية، فصبي اليوم هو قائد المستقبل. وأول مادة ينبغي التركيز عليها في دروس التاريخ هي دراسة تاريخ أوروبا وتطور الحضارة الغربية. فعلوا ذلك في العراق أثناء العهد الملكي، ولكن الأنظمة الثورية والجمهورية قلصت أو استأصلت ذلك. وكان من نتائج مساعيهم هذه الديمقراطية العرجاء والمجالس والاستفتاءات الصورية.