انتهت فقاعة العسكر!

TT

لعل أبرز إنجازات الثورات العربية، حتى الآن، هو السقوط المدوي لشرعية حكم العسكر للجمهوريات العربية التي طالما تغنت وادعت أنها تحكم باسم الثورة وباسم الشعب وباسم الأمة، وأن همها الأكبر هو القضية الفلسطينية والهم الوحدوي العربي، وطبعا كان معروفا زيف هذه الادعاءات مع مرور الوقت، وانكشفت المآسي التي تسبب فيها كل حكم عسكري بكل بلد على حدة. فسوريا، التي شهدت أول انقلاب عسكري بقيادة حسني الزعيم، الذي كان بمثابة فاتحة شر لما أتى بعده في بلاده وفي دول أخرى، وانفتحت شهية العسكر فيها لتكرار التجربة، كان الاعتقاد لفترة طويلة أن العسكر هم وحدهم من لديهم المصداقية في المجتمع، وبالتالي الشرعية، ولهم الحق بالتحدث عن كل أحد مع كل أحد وفي كل شيء دون خجل أو تردد.

جمال عبد الناصر اعتقد أنه ومجموعته، المسماة مجلس الثورة، لهم الحق بالحديث باسم العرب جميعا وليس مصر وحدها، وطبعا كان سجله «العسكري» في اليمن وسيناء وسوريا والجولان والضفة الغربية والقدس كارثيا، كأفضل الأوصاف في وقت أدى أداؤه إلى إفلاس مصر وتساقط الحقوق والحريات وزيادة القمع بشكل مخيف. حتى العراق كانت له تجارب محزنة وأليمة مع حكم العسكر، آخرها كان مع صدام حسين، وهو الذي لم يكن عسكريا في حقيقة الأمر، لكنه كان حريصا على مواجهة «عقدة النقص» هذه بدوام ارتدائه للزي العسكري وقيادته «شخصيا» لكل الشؤون العسكرية ومنح نفسه رتبة «فريدة» هي المهيب الركن، في سابقة من نوعها في الهيكلية العسكرية التقليدية، وهو يفسر كيف أنه برعونة وجهالة تسبب في تدمير آلة العراق العسكرية في حربين متتاليتين مع إيران واحتلاله للكويت من بعد ذلك.

وطبعا هناك «المهرج» معمر القذافي الذي جاء إلى الحكم في انقلاب على الملك الصالح إدريس السنوسي وبدأ يتصرف كالطفل الأهوج ويخوض «مغامرات» عسكرية في السودان ومصر وتشاد والنيجر والجزائر وغيرها من الدول، ويقنع نفسه بأنه يخوض معارك عسكرية بالفعل ويزين صدره بشعارات عسكرية وهمية حتى تحولت بدله العسكرية إلى ما يشبه لوحات الدعاية والإعلان. وتحول العسكري الشاب الليبي، الذي قام بالانقلاب ذات يوم، إلى مهرج عسكري يحكم بالجنون بلدا بأكمله.

وفي اليمن كان علي عبد الله صالح ينتظر دوره حتى وصل لسدة الحكم بعد اغتيال غريب للرئيس السابق إبراهيم الحمدي، وظل باستمرار يفكر بلاده بأنه كعسكري هو الذي وحد البلاد وهو الذي حافظ على الأمن وهو الذي حارب الإرهاب وهو الذي نشر العدل والديمقراطية.. ذلك كله بينما كان في الواقع يحضر ابنه «العسكري الآخر» لخلافته من بعده.

وفي سوريا كان حافظ الأسد يحضر، بشكل دؤوب، أكبر أنجاله (باسل) لخلافته، ومكنه من نيل بعض القبول بالجيش، تلك المؤسسة العسكرية المهمة، وبدأ في ممارسة بعض الأدوار التي كلف بها لنيل الشعبية والحب الجماهيري كمصلح ووريث حتى مات فجأة في حادث سيارة، واضطر الأب لإحضار ابنه الثاني بشار على عجالة وقطع طريقه الأكاديمي والطبي ليدخل بشكل سريع ومكثف في دورات عسكرية متتالية وينال الرتبة تلو الأخرى ويخلع الرداء الطبي الوقور ويرتدي البدلة العسكرية الكاملة، لكن كان ذلك دون قناعة حقيقية من الجيش ولا القبول به لولا أنهم رأوه أمانا واستمرارا للطائفة وليس للوطن، كما تبين من موقف الجيش الحالي في الثورة السورية المتواصلة.

الثورات العربية الحالية أسقطت شرعية حكم العسكر وكشفت عن زيفه ونفاقه وتسلطه وقمعه، وأدركت أن الشرعية الجديدة هي شرعية الشعب نفسه، الذي اكتسب ثقة، وكسر حاجز الخوف، وبنى الأمل مجددا، وهذه أسلحة لا تقاوَم من جيش وعسكر متهالكين. حكم العسكر كان أسطورة وفقاعة انتهت.

[email protected]