يوم آخر من أيام الانتفاضة السورية

TT

من بعيد، يبدو ما يجري في سوريا وكأنه يراوح مكانه، فالمظاهرات لا تتوقف، مثلما محاولات قمعها لا تتوقف، كلاهما عقد العزم على عدم التراجع. وفي استعراض لوقائع يوم ما، لا على التعيين، من أيام الانتفاضة السورية من شهر أغسطس (آب) الماضي يطلعنا على العمليات القتالية التي يبذلها النظام لوضع حد نهائي لها، ففي هذا اليوم: عشرات من آليات نقل الجنود غادرت حماه في الصباح ـ ساحة العاصي حيث يقع مبنى المحافظة في وسط المدينة والتي كانت مسرح المظاهرات باتت تحت السيطرة الكاملة للقوات الحكومية ـ مقتل 16 شخصا في مدينة حمص، وإصابة آخرين بجروح، بعد أن قامت قوات الأمن بإطلاق النار بشكل عشوائي في حي بابا عمرو ـ الجثث ملقاة في الشارع ـ الجرحى ممددون على الأرض لا يمكن إسعافهم بسبب الاستمرار في إطلاق النار ـ أنهت وحدات من الجيش السوري ظهرا خروجها من مدينة إدلب وريفها ـ قتلت امرأة في بلدة تفتناز عندما اقتحمتها 12 دبابة وعربة مصفحة وعشر حافلات كبيرة محملة بالجنود ـ هجوم لقوات الأمن على بلدة سرمين القريبة ـ قتل أربعة قرويين في بلدة بنش القريبة ـ في دير الزور، شوهدت الدبابات وناقلات الجند المدرعة تجوب الشوارع في أحياء الشيخ ياسين والجبيلة والموظفين، مع استمرار سماع أصوات إطلاق نار من رشاشات ثقيلة ودوي انفجارات ـ بدء حملة اعتقالات في ريف دمشق وفتح النار على كل من حاول الهرب..

لن نتابع نحو مائتي موقع ما بين مدينة وقرية لاقت هذا المصير مرة، وربما ستلاقيه أكثر من مرة، فالجيش الذي خرج من حماه قد يعود إليها بعد أيام، ومثله الجيش الذي أنهى عملياته في إدلب وريفها قد يجددها بعد أسبوع، ناهيك عن باقي المدن والأرياف السورية الذي عادت إليها قوات الأمن والجيش السوري بعد خروجهما بأيام قليلة. وبات من الممكن تحديد أرقام ضحايا العنف، فالمعدل الوسطي اليومي للشهداء يتراوح بالعشرات، وهناك من الأهالي من يدفنون أبناءهم القتلى سرا كي لا يتعرضوا للأذى. الجرحى بالمئات أغلبهم يعالجون في عيادات مرتجلة وفي الخفاء. المعتقلون بالآلاف، تباشر قوات النظام تعذيبهم منذ لحظة انتزاعهم من بيوتهم، أو القبض عليهم في الشوارع، يشحنون بالباصات، يضربون بالأيدي والأرجل قبل وصولهم إلى مراكز التحقيق، ثم يفرج عنهم بعد أيام أو أسابيع، أو يحتجزون في المعتقلات، وقد يسلمون جثثا هامدة عليها آثار التعذيب، وإذا لم يعودوا اعتبروا من المفقودين.

سوريا منذ قرر النظام المضي في الحل الأمني تحولت إلى ساحات حرب معلنة من طرف واحد، تقوم بها حملات مدججة بمختلف صنوف الأسلحة قوامها الجيش ورجال الأمن وما يدعى بالشبيحة، تطال متظاهرين من الشبان والنساء والأطفال العزل.

في اليوم نفسه، حسب الأخبار، ما زالت حملات التنديد بالنظام تتوالى من بلاد العالم وعلى رأسها أميركا وتركيا وبلدان أوروبا، البلدان العربية أخذت بسحب سفرائها من دمشق للتشاور. العالم الغربي بدأ يقوم بخطوات مماثلة، مع التهديد بالعقوبات، بعضها بدأ بتنفيذه وشمل رجالا من أعمدة النظام. تركيا أعطت النظام أكثر من «فرصة أخيرة»، أميركا طالبت الرئيس السوري بالتنحي، أوروبا تطالب بتضييق الخناق اقتصاديا على النظام، لكن العالم ما زال يعول على أن يقوم الرئيس بالإصلاحات المنشودة.

بعد أكثر من خمسة أشهر، لم يعد المتظاهرون يرجون تحركا من المجتمع الدولي، ولا يعولون عليه أو يهتمون بالتأييد المعنوي أو يبالون بالتهديدات اللفظية، العقوبات المجدية وغير المجدية لا تحقن الدماء. ولهذا لم تخفت حدة المظاهرات، وإن حافظت على سلميتها وزخمها، ولم تتنازل عن مطلبها: الحرية.

وإذا شئنا البقاء في اليوم نفسه، نلاحظ تصريحا لمسؤول سوري كبير: سوريا ستكون ديمقراطية حرة ومتعددة قبل نهاية العام!! غاب عن المسؤول، وعلى الأغلب تجاهل، أن نظامه مهما حسنت نواياه لا يمنح الحرية لضحاياه، بل يسعى إلى كتم أنفاسهم وكسر إرادتهم. هذا من أبجديات الديكتاتورية: لا تعط المظلومين سلاحا كي يحاربوك به. الحرية سلاح، من لا يعرف هذا؟!

وإذا عدنا إلى ما يجري الآن، فلن نلاحظ متغيرات كثيرة، فالمظاهرات اتخذت إيقاعا يوميا مكلفا وقاسيا، إيقاعا يخشى أن يصبح مملا. لكن حملات القمع الوحشية، التي أصبحت أكثر ضراوة ودموية، شدت من عزائم المتظاهرين؛ لا تهاون في الخروج، ولا تراجع عن السلمية. غير أن المعجزة أصبحت في الاستمرار على هذا النحو: لا سلاح، لا طائفية، يد واحدة.. والاعتياد على فقدان الأصدقاء والأبناء والأحفاد، بالموت أو الاعتقال.

ترى كم من الحقد يلزم النظام كي يستمر على هذا الإصرار في القتل؟

وكم من الإيمان بعدالة قادمة تدفع المتظاهرين إلى مواصلة المقاومة؟

درب الآلام السوري لا يزال طويلا.

* روائي سوري