الطبع والتطبع

TT

لقد أضاع سيف الإسلام القذافي أعظم فرصة لنفسه ولبلده بوقوعه ضحية لجذوره، على الرغم من كل حياته في الغرب وتشبعه بالفكر الغربي. في آخر المطاف ينتصر الطبع على التطبع.

بعد تشربه ما درسه في لندن، وحصوله على الدكتوراه من هذه الكلية المرموقة، كلية لندن للاقتصاد، وتأثره بالحضارة الغربية ومتطلبات العلاقات الدولية، سعى لتصحيح مسار ليبيا الذي أغضب العالم. نجح في إقناع والده المعتوه بالتخلي عن سياساته الخرقاء كسعيه لإنتاج أسلحة نووية ودعم الإرهاب العالمي. نجح في ذلك، واستطاع بنجاحه هذا تطبيع وضع ليبيا وإعادتها كدولة محترمة في الأسرة الدولية. حتى توني بلير ذهب لزيارة القذافي الأب والثناء على سياسته الجديدة.

مضى سيف الإسلام ليحقق تصحيحا مشابها في الجبهة الداخلية بإجراء إصلاحات واسعة تضمنت السعي إلى إقامة الديمقراطية وتبني التعددية، لكن القذافي الأب وقف هنا وقال: كلا.. لا بأس أن أصلح علاقاتي مع الأجانب ولكن ليس مع أبناء شعبي. ربما لأنه أدرك، بغريزته السياسية، أن الحكم سيفلت من يديه ولا يستطيع استضافة غانيات روما أو إحاطة نفسه بفتيات طرابلس من دون قبضة ديكتاتورية ليفعل ما يشاء دون رقيب أو حسيب. ما الذي يستطيع الابن أن يفعله حيال ذلك التعنت؟ شاعت حكايات بأنه يخطط لانقلاب يزيح والده من منصبه ويتولى هو الحكم. لم يظهر أي شيء من ذلك وبقي الابن المطيع لوالده. ولربما أدرك أن مثل هذا الانقلاب يتطلب دعما من القوات المسلحة وشعبية كبيرة بين الجمهور والمسؤولين. ومن أين له ذلك وقد قضى سنوات نضوجه في الخارج بعيدا عنهم؟ ولم يكن هناك وجود مكثف من القوى الكبرى داخل ليبيا ليتآمر معها، إذا شاء أن يفكر بذلك.

ثورة الربيع العربي أعطته فرصة للانضمام إليها وربما قيادتها، لكن من الصعب له، كشخص علماني، أن ينسجم معها أو يجد له مكانا بين صفوفها من الإسلاميين. يلوح لي أنه كان بإمكانه، كأهون الشرَّين، أن يخرج من طرابلس وينزوي بعيدا داخل ليبيا أو خارجها ويترك الطرفين يتقاتلان ويتباريان على النتيجة. لسوء حظه لم يفعل ذلك. هنا أيضا، غلب الطبع التطبع. وهذه كانت مأساته التي بدأها بذلك الخطاب الرقيع عن القتال حتى النفَس الأخير دفاعا عن النظام الذي لم يستصوبه. لا أدري ماذا كان دوره في القتال، وما إذا زاد حنون في الإسلام خردلة.. فالأمور العسكرية هي آخر ما يفهمه، وعلمه فيها لا يزيد على علم عدي، الذي أعطاه صدام حسين قيادة الجيش العراقي، لكن سيف الإسلام، بمشاركته هذه، ألقى بنفسه في قائمة مجرمي الحرب ضد حقوق الإنسان. وهكذا سقط هذا الشاب إلى مستنقع الجريمة وسفك الدماء البريئة وأضاع على نفسه وبلده فرصة نقلة سلمية نحو التغيير العقلاني ومسيرة التطور ومواكبة الحياة المعاصرة بهدوء