غزة: عكس السير!

TT

إذا كان الوضع الفلسطيني يتميز بشيء، فهو حضور المواطن والمجتمع في تاريخ فلسطين الحديث، سواء فيما يتعلق بمقاومة المشروع الصهيوني منذ نهاية القرن التاسع عشر إلى اليوم، أم بالحفاظ على الهوية والذاكرة ومفتاح البيت وحكايات الليل، والعمل والنضال من أجل «القضية»، التي يعرف كل فلسطيني أنها الاسم الآخر للوطن.

مع فشل الشعب الفلسطيني في إقامة دولة مستقلة طيلة نيف وقرن، ومع إخراجه من مسار السعي العربي إلى تأسيس دول وطنية، بسبب استيلاء الصهاينة التدريجي على وطنه خلال صراع تخطى قدراتهم الذاتية المبعثرة والضعيفة، أدرجه الغرب في مشروع كوني مدروس استهدف تأسيس كيان أجنبي في بوابة الشرق: فلسطين، بلور شعب فلسطين وعيا جماعيا بالوطن لا مثيل له في التاريخ الحديث، جسدته رابطة شديدة الخصوصية بين الفرد والذاكرة، وبين الذاكرة والأرض، التي صارت وطنا تحمله في ذاتها جماعة مبعثرة توحدها رابطته القوية معه، فهو يلازمها في كل وقت وحال، لأنه وطن خاص بكل فلسطيني أينما كان، قوامه الحلم في استعادته وإرادة الموت في سبيله، مع أن حامله ولد غالبا خارجه ولا يعرفه، بيد أنه يعيش دوما فيه بعد أن أعاد إنتاجه داخل نفسه وفي وعيه، وجعله هاجسه وهدفه الوحيد، ونشره في سائر مفردات وجوده: من لهجته، إلى نمط حياته، إلى مضامين وعيه، إلى علاقاته الشخصية العامة والخاصة، إلى رؤية كل شيء بدلالته. في غياب الدولة العامة، صار لكل فلسطيني دولة خاصة تشبه تماما دولة أي فلسطيني آخر، وصار مواطنا لا هم له غير إعادة إنتاجها في الواقع، أي خارجه، وغدت رسالته إصلاح ما أفسده التاريخ، بإعادته إلى ما قبل الكيان الصهيوني أو إلى ما بعده، حيث الشهادة طريق موت شخص وحياة شعب ومنجبة دولة سيدة وحرة ومستقلة، لا تعني الحياة الكثير ولا يمكن أن تستمر كحياة في غيابها.

إذا كان المجتمع المدني هو مجتمع المواطنين الأحرار، فالفلسطيني هو مؤسس المجتمع المدني العربي، وهو مواطنه الأول بامتياز. وإذا كانت دولة هذا المجتمع تنمي حرية المواطن، فحرية الفلسطيني نشأت في غياب دولته وقبل تأسيس تنظيمات سياسية ومسلحة، وتركزت على انتزاعها من العدو الغاصب، كي تنجز هدفا مزدوجا: التعبير عن الهوية الوطنية على مستوى سياسي جامع من جهة، وتنمية حريته كمواطن أسسها في وعيه أولا ثم ناضل واستشهد من أجل إقامتها في الواقع، من جهة أخرى. أذكر كلام الراحل الشهيد ياسر عرفات حول الدولة، التي قال إنه لا يريد لها أن تعرف من الشرطة غير شرطة البلدية، لأنها لن تكون دولة رقابة وقمع، بل دولة مشاركة وحرية ومواطنة.

اليوم، والعالم العربي يتجه نحو حقبة يدير فيها ظهره لدولة الرقابة والقمع، تتخذ حركة حماس في غزة تدابير تذهب عكس السير الفلسطيني والعربي العام، بحق منظمات المجتمع المدني والأهلي في القطاع، التي تكونت ضد الاحتلال وقامت بمجهود نضالي هائل من أجل تثبيت الشعب في أرضه وإمداده بمقومات الصمود، وتكفلت بمساعدة قرابة نصف الشعب الفلسطيني هناك، وعنيت بصحة وتعليم وغذاء وسكن وعمل مئات آلاف المواطنات والمواطنين، فقد قررت الحكومة عبر إعلان نشره «موقع الأمانة العامة لمجلس الوزراء»، «عدم السماح لأي جمعية خيرية أو مؤسسة غير ربحية بتنفيذ أي مشروع ممول من جهة مانحة إلا بعد موافقة وزارة الداخلية والأمن الوطني والجهات المختصة»، وفرضت الحركة قيودا على «كل من يريد السفر عن مشاريع وبرامج الجمعيات الأهلية والمؤسسات، سواء إلى الضفة الغربية أو دول أخرى (من يسافر إلى الضفة الغربية كمن يسافر إلى دول أخرى، أي إلى غير وخارج فلسطين!)، عليه مراجعة الإدارة العامة للشؤون العامة والمنظمات غير الحكومية في موعد لا يقل عن أسبوعين من السفر مع تحديد: مكان السفر، وفترة السفر والإقامة، والهدف من السفر مع تحديد البرنامج والفئة المستهدفة (كشف بأسماء وبيانات المشاركين) والجهة المستضيفة».

لا داعي لشرح هذه النصوص، وخاصة الأخير منها الخاص بالسفر، فالمشروح لا يشرح، وتقديم كشف بأسماء وبيانات المشاركين في لقاء من شخص ليس هو من دعا إليه يعتبر قرارا مسبقا بمنعه من السفر، وبالحيلولة بينه وبين اللقاء مع من يشاركونه النشاط والأهداف من خارج غزة، مع ما يعنيه هذا من تعطيل لأنشطة المجتمع المدني وتدويل للشأن العام واحتكار للمجال السياسي، بينما الأصل في مراحل التحرر الوطني إطلاق أعظم قدر من المبادرات والأنشطة المجتمعية، التي تعبر عن طاقات وقدرات الشعب، مع الحرص على أن تكون متكاملة غير متناقضة. أما هنا، ومرحلة التحرر الوطني الفلسطيني أمام منعطف كبير، فينصرف اهتمام حكومة القطاع إلى منع هذا التنوع، والاستيلاء على مجالات العمل الحر، التي تمنح المجتمع استقلالية هو بحاجة إليها عن المجال السلطوي، يبدو أن التدابير الحكومية الحالية تستهدف وضع اليد عليها، لأنها لا تريد لها أن تؤدي هذه الوظيفة... والمشكلة أن هذه التدابير ليست فقط عكس ما يجري في العالم العربي، بل هي تتخذ قبل إعلان قيام دولة فلسطين خلال الشهر الحالي، الذي يفترض أن تقوم الحركة باتخاذ قرارات تشجع العالم على الاعتراف بأهليتها للاستقلال، في مقدمها إقرار خطوات تثبت أنها ستكون دولة حرية ومدنية ومشاركة، وستلعب دورا جديا في تقدم المنطقة ونشر السلام والتواصل الحر في ربوعها وعبر العالم، لأن دولة فلسطين يجب أن تكون حرة كي تشبه شعبها الحر، ولا يجوز أن تكون معسكرا مقفلا لتنظيمات مغلقة تكبت مواطنيها، باسم أمنها الخاص، الذي لن يكون في هذه الحالة أيضا غير ما كان عليه الأمن في الحالة العربية العامة: مصدر توتر وقلق وقمع وحرمان، وبالتالي فوضى وصراعات داخلية وعجز وتهافت حيال الخارج.

ترى حماس فلسطين بدلالتها الذاتية، وتحكم قبضتها عليها كي تكون حماسية أو لا تكون. بغير هذه النظرة الخاطئة، كانت الحركة ستؤسس في فلسطين واقعا يسهم في قيام حاضر ومستقبل العرب الحر، وستحجم عن العمل بطريقة تجافي تاريخ وحقوق فلسطين وتطلعات شعبها، وستفهم معنى انهيار نظم بدت راسخة، عجزت عن البقاء ليس لأنها لم تكن أمنية بما فيه الكفاية، بل لأنها كانت كذلك بالتحديد، وإلى الدرجة التي حولت بلدانها إلى دول سلطوية مطلقة، رأى الشعب فيها معسكرات اعتقال فثار عليها، وها هو يسقطها!