مبارك وشيراك ومحكمة الانتفاضة

TT

انتهت حروب فرنسا في القرن العشرين، عندما غادرها الراحلان اللدودان ديغول وميتران. مات ديغول وهو يقرأ بخت فرنسا في أوراق اللعب (الكوتشينة). وأصر ميتران على الموت بسرطان البروستاتا. فقد رفض الاستعانة بالطب الأميركي الذي وفر لشقيقيه الشفاء.

ورث جاك شيراك فرنسا. فحكمها 14 سنة بلا انتفاضة تُذكر. كان شيراك رئيسا ناجحا. جمع حب العرب واليهود. زار الضفة وحائط المبكى. عارض انتفاضة بوش ضد صدام. عاصر انسحاب شبيحة بشار من لبنان. حال دون استيلاء فرسان العنصري لوبن على قصر الإليزيه.

أحب الفرنسيون شيراك. فقد تخلى عن ابنه الروحي ساركوزي. ثم ورثه الرئاسة. وعندما اتهم القضاء شيراك بتمويل حزبه من جيب بلدية باريس، أحبه دافعو الضرائب أكثر وأكثر.

وفرنسا بلد ديمقراطي. وحضاري. فقد انقرض شبيحتها مع ماري أنطوانيت ولويس السادس عشر. لا شبيحة هنا تهتف: «بالروح بالدم. نفديك يا ساركوزي». وعندما عرف الديغوليون أن ميتران مريض بالسرطان، هتفوا «شيراك. وبس» وأجلسوه رئيسا لحكومة المساكنة بين اليمين واليسار.

كان عقلي مع ميتران الرئيس الذكي الذي دوخ الساسة. كان مثقفا. ذا شخصية مركبة. متعددة الأبعاد. يسهر عند فرانسواز سانمان. يحاور الفلاسفة والأساقفة عن سر الحياة. وعندما مات أجبر زوجته. وعشيقته. وابنته المجهولة على الوقوف معا إلى جانب جثمانه في الكنيسة.

وكان قلبي مع شيراك. كان أكثر بساطة من ميتران. أقل تعقيدا. أشد جرأة. تابعت شيراك في شبابي وكهولتي. رأيته يصعد المناصب بلا سلالم. فقد وصل قفزا.

ثم أخافني شيراك. فقد رأيت فيه أخيرا شبح حسني مبارك. كلاهما عجوز ومريض. شيراك يتوكأ على عصا وممرضتين. ومبارك الأكبر سنا يدخل محكمة الانتفاضة مسجى على فراش في موكب جنائزي لقدماء المصريين. وحسدت نفسي. فما زلت أمشي متوكئا على قدمين شبه ثابتتين فوق كرة أرضية مهزوزة.

لا كرامة لرئيس أو وريث في رئاسته. يحزنني شيراك ومبارك. شيراك أيضا مطلوب لمحكمة العدالة، بعدما زالت وجاهة الرئاسة. استدعى شيراك فرويد وأطباء النفس والعقل. فحكموا بأنه مصاب بالنسيان. لا يستطيع أن يتذكر ما حدث لصندوق بلدية باريس قبل 34 سنة. صدقت المحكمة أطباء النسيان. وسمحت لشيراك بالغياب. ودعته إلى الحضور عندما يتذكر.

مسكين الرئيس مبارك. أعلن أطباء الكلى. والمرارة. والكبد. والبنكرياس. والأمعاء... أنه مصاب بأمراض الأجهزة الداخلية. فأصرت محكمة الانتفاضة على حضوره.

زمالة العمر والسن مع شيراك لا تفسد صلة الود، مع الحزب القائد للاشتراكية الرأسمالية. حزب الشرع. والأحمر. وبخيتان. وفليتان. قلبي ظل طوال العمر اشتراكيا على اليسار. لم ينتفض. وينتقل إلى اليمين، إلا بعدما اتهم الاشتراكي جدا جدا دومنيك ستراوس كان بمحاولة اغتصاب خادمة الفندق في نيويورك. برأه المدعي العام. لكن الهواجس تساور نساء فرنسا ضده.

الحزب الاشتراكي الفرنسي من المخلوقات الأوروبية النادرة المهددة بالانقراض. الاشتراكية ليست سياسة فقط. الاشتراكية، عند روادها الأوائل، أخلاق ومثاليات أيضا. فهي الضمير الاجتماعي للشعب. كيف يستطيع زعيم اشتراكي أن يرأس صندوقا دوليا لمساعدة الفقراء، وأن يترشح للرئاسة بالنيابة عنهم، وهو قادر على أن يدفع 12 ألف دولار، للمبيت ليلة واحدة في فندق؟!

أتفرس في سحنة كان. أرى رأسه قد اشتعل شيبا. ماذا يخبئ لغده؟ الموت السياسي يفقد الزعماء أحيانا الرغبة في الحياة. ربما هو أصعب من الموت الجسدي. لكن صدمة الموت المفاجئ، هي التي تلقي مسحة جماهيرية درامية على غياب الكبار.

مات عبد الناصر كهلا تناوشته الأمراض وهو في الثانية والخمسين من العمر. انهار بنيانه الشامخ مهموما بالحرب بين الفلسطينيين والأردنيين. آه من الثانية والخمسين! مات نابليون بونابرت في الثانية والخمسين. فقد ابتلع الزرنيخ الذي دسه آسروه الإنجليز في وجبات طعامه.

عندما بلغ جبران خليل جبران الأربعين، قال: «الآن، بلغت قمة هرم الحياة». ربما كان يتوقع أن يتسلق هرما آخر من السنين. لكنه مات أيضا في الثانية والخمسين. هل نسأم الحياة، إذا طال العمر؟ ربما. فمع خشونة الحياة، وشظف العيش، سئم زهير بن أبي سلمى، طول العمر: «ومَنْ يَعِشْ ثمانين حولا، لا أبا لك، يسأمِ».

الغذاء الروحي يطيل أمد الحياة. المؤمن أطول عمرا، مهما كانت الحياة صعبة. متقشفة. تطور الصحة الوقائية ساعد أيضا على إطالة العمر. تكاثر الناس. فامتلأ البحر والبر بالنفايات! الناس لا يريدون أن يموتوا. فارتفع معدل الأعمار من الأربعين قبل عصر التنوير، إلى 75 عاما، في زمن ستالين. وبشار. وبينوشيه. لكن العلم لم يفسر، بعد، كيف تعيش المرأة عشر سنين أخرى، بعدما تدفن زوجها؟ بعض العلماء يتهمون الفياغرا. فقد أرهق الرجل نفسه بالأشغال الشاقة خلال العملية الجنسية.

هل الحب يطيل العمر؟ ثرثرة الوصال الاجتماعي عامل مساعد. الرجال يعيشون عمرا أطول في جحيم الزواج، من العزاب في نعيم الوحدة. عاش الشاعر غوته فوق الخامسة والسبعين، وهو حالم بحب مراهقة في الخامسة عشرة. حلم باسترناك بـ«لوليتا» وهو فوق الستين.

نعم، الزواج يطيل العمر. لكن يبدد الحب. لو تزوجت ليلى مجنونها، لأصابها منه أذى جنونه. يبقى الحنان بعد الزواج. فهو أرق وأخلد من الحب. لمسة حنان في صمت تعوض عن أطنان من الحب. كان سقراط ينصح ابنه: «تزوج، يا بني، تزوج. فإما أن تعيش سعيدا. وإما أن تغدو فيلسوفا». لذلك، كان عدد الفلاسفة الذين عذبهم كيد النساء، أكثر من عدد السعداء. كان الفيلسوف شوبنهاور يقول: «أفظع ما في الوجود ذكاء المرأة الجاهلة».

يقول لي جاري الفرنسي العجوز: «لكل مرحلة من العمر جمالها. ولذائذها. فالتقدم في العمر فن». كان على جاري، بعد كذا من السنين، أن يتعلم المشي بقدمين مقوستين. متباعدتين. فقد أنهكه فن إدارة الصراع مع سرطان البروستاتا.

كان البابا جون بول الثاني رياضيا يهوى تسلق الجبال في شبابه. ثم أحنى المرض الرعاش (باركنسون) هامته فوق صدره. عندما حاول الأطباء شق عنقه. لتركيز أنبوب يتنفس بواسطته، رفض. طلب منهم أن يتركوه يموت في هدوء. وسلام.

تبقى الرغبة في الحياة أقوى من الموت. يموت ملايين الهنود عراة. جوعى. مجهولين بلا أسماء. فتنبت من التراب ملايين أخرى عراة. جوعى. بلا أسماء. فالحياة تتواصل. وتستمر في وجوه وأجساد متشابهة. يقول الشاعر البياتي:

قلت لأمي الأرض:

إنْ حَكَت الحياة عن بؤسها

فما الذي

عن بؤسنا نحكي

نذبل في ليل المنافي ولا

نشبع، في عناقنا، منكِ