هي فوضى!

TT

عظمة الفن هي في قدرته على قراءة المستقبل الذي يتشكل في معظم الأحيان من الواقع اليومي المعيشي والذي يملك الفنان قدرة على رؤية ما لا يراه الجميع رغم أنه يمر أمام أعينهم يوميا بدون أن يلحظوه عقليا. وقد تنبأ فيلم المخرج الراحل يوسف شاهين «هي فوضى» قبل أعوام قليلة، في تطابق مثير للدهشة، بالأحداث التي مرت بها مصر هذا العام استقراءً من الواقع الذي كانت تشهده وقتها، والذي بدأت ملامح الفوضى تتشكل فيه من فساد وسطوة السلطة وتململ شعبي انتهاء بالمشهد الأخير للفيلم في خروج الناس لاقتحام مركز شرطة.

وعلى أرض الواقع، فإن مشهد الخروج الجماعي للناس في ثورة على الواقع القائم في 25 يناير الماضي تجسيد بشكل أو بآخر للمشهد الأخير في الفيلم مع نهاية سعيدة تمثلت في قدرة الناس على تغيير النظام بتظاهرات سلمية رغم القمع الذي تعرضت له وفي وقت قصير نسبيا، لتبدأ مرحلة جديدة أحيت الآمال في بداية وضع الأقدام على طريق صحيح لإنهاء جذور الفوضى وبناء دولة عصرية على أسس ديمقراطية وهو الهدف الأساسي المفترض لما حدث.

ولم يتوقع أحد أن يحدث هذا بين يوم وليلة أو أن يكون سهلا، فالتغيير والبناء عادة ما يكون أصعب وأشق من لحظة الثورة نفسها. ولم يشهد التاريخ من قبل تغييرا بهذه الجذرية تم من دون عثرات أو في شهور قليلة. والنماذج كثيرة في العالم، وآخرها تجارب دول أوروبا الشرقية التي لا يزال الكثير منها في مرحلة التحول حاليا.

لكن هناك فرق بين صعوبات التغيير ومشاقه واستمرار حالة الفوضى وتمددها؛ فالصعوبات لها حل، لكن الفوضى تعني مراوحة المكان وعدم إمكانية التقدم خطوة إلى الأمام، بل مواجهة خطر الارتداد إلى وضع أسوأ أو الدخول في كوارث نصنعها بأيدينا تدفع ثمنها الأجيال المقبلة.

آخر حالة واضحة لهذه الحالة الفوضوية ما حدث في جمعة تصحيح المسار الماضية التي أصبحت «لخبطة» للمسار وما رافقها من اقتحام للسفارة الإسرائيلية، ومحاولة الاعتداء على السفارة السعودية ووزارة الداخلية ومديرية الأمن في الجيزة، وحتى حرق جزء من حديقة الأورمان المجاورة كما قالت بعض التقارير، وكأن هناك غضبا أعمى غير رشيد يريد أن يحرق الأخضر واليابس بدون أي حساب.

النتيجة بدت وكأن بلدا يدمي نفسه بنفسه، اهتزت صورته الخارجية وبدا كدولة فاشلة لا تستطيع أن تحمي البعثات الدبلوماسية على أرضها، اهتزت صورة الشعب والقائمين على إدارة الأمور، ولم يتعاطف أحد في العالم مع ما حدث، وخسرت ثورة 25 يناير جزءا من صورتها الخارجية التي كانت حظيت بالإعجاب بعد مشاهد العنف التي حدثت. وداخليا أصبح الناس العاديون أكثر تقبلا للجوء إلى إجراءات أكثر حزما، وعاد قانون الطوارئ.

وهناك حديث الآن عن ثورة مضادة وقوى خارجية تتآمر من أجل انهيار مصر. ولا نعرف إذا كان ذلك صحيحا أم لا. لكن المؤكد أن مسؤولية هذه الفوضى وحالة الغضب العمياء الحالية تقع على حالة غريبة من الارتباك في الداخل، فاقتحام السفارة الإسرائيلية جاء على خلفية أيام من الشحن المعنوي الإعلامي ومداهنة السياسيين والحكومة لما حدث أول مرة عندما تسلق شاب العمارة وأنزل العلم في المرة الأولى وتحول إلى بطل شعبي. وذلك بدلا من أن يقال من البداية إن هذا خطأ ويمس بسمعة البلد في قدرته على حماية السفارات القائمة على أرضه طالما أنها موجودة باتفاقات. صحيح أن هناك غضبا لحادثة قتل جنود مصريين في سيناء، لكن هناك طرقا للرد وليس الغضب الأعمى وردود الفعل الخرقاء التي لا تؤدي إلا إلى كوارث.

الفوضى أيضا تسمح بتشتيت الانتباه، فأهداف الثورة في 25 يناير واضحة في العدالة والديمقراطية وبناء دولة قانون، وهي عملية في غاية الصعوبة كما نرى من خلال الرؤى المختلفة للقوى السياسية علمانية وإسلامية ويسارية لكيفية حدوث ذلك وتحتاج إلى تركيز وجهد عظيم، وفجأة رأينا إسرائيل تدخل في المشهد لينشغل الناس بشيء آخر، وكأن إنزال العلم هو الذي سيحقق بناء الدولة العصرية.

تشتيت الانتباه يمكن أن نراه أيضا من التركيز المبالغ فيه على المحاكمات التي تجرى لرموز النظام السابق. فهذه المحاكمات، رغم أهميتها للناس، لا يجوز التعامل معها على أنها مسلسلات تلفزيونية ويكون الاهتمام بها على حساب الانشغال بالقضية الأهم وهي البناء للمستقبل وعبور المرحلة الانتقالية بسلام، وهي مسؤولية القوى السياسية المختلفة التي شاركت أو تبنت أو انضمت إلى أهداف 25 يناير التي يجب أن تتبنى برنامجا أو رؤية توافقية بقدر الإمكان، وليست رؤية صراعية لعبور هذه المرحلة. فلا تكون مصر - مثلما شبهها صديق عربي محب لها - بلدا خرج أهلها إلى الشرفات ليتبادلوا «شتم» بعضهم.