سيدة دول الدنيا!

TT

هل يتحقق حلمنا الذي عشنا من أجله، بين مسائل أخرى، ونرى دولة فلسطين، التي كان إلياس مرقص يؤكد دوما أن قيامها سيكون ضربا من الاستحالة قبل احتلال بتاح تكفا على مشارف تل أبيب؟ هل نرى حقا قيام الدولة، التي كثيرا ما اعتبرنا أنها ستكون سيدة دول الدنيا، ليس فقط بسبب ما قدم في سبيلها من تضحيات غالية، بل كذلك لأن لقيامها رمزية لا تشبهها أي رمزية أخرى، عندنا وفي العالم الفسيح، لأنها ستكون الدولة الوحيدة التي فرضت تاريخها الخاص على تاريخ الدول العام، بعد أن خال الممسكون بأعنته أنهم نجحوا حقا في تهميشها وجعل قيامها أمرا مستحيل الحدوث، وها هي راياتها تلوح في الأفق القريب، بعد أن غسل «شعب الجبارين» بدمائه دروبها الوعرة والخطرة، وفرش بأجساده طريقها نحو الوجود، وخاض في سبيلها معركة موت وحياة كانت تبدو مستحيلة حتى في أعين ثوري مجرب مثل ماوتسي تونغ، الذي سأل وفدا فتحاويا زار الصين عام 1968: كيف ستقاتلون إذا لم تكن وراءكم جبهة عربية مساندة لا تخترق، وأمامكم، داخل فلسطين، جغرافيا لا يستطيع العدو الوصول بسهولة إليها والسيطرة عليها؟

واليوم، تبزغ شمس فلسطين في ظرف يتسم بجديدين:

الأول: تغيير عربي تحمله مجتمعات اكتسبت خلال سنوات الاستبداد الأربعين الماضية الكثير من السمات الفلسطينية، بسبب تحول نظمها إلى نظم احتلال داخلي يساندها استيطان قوم سلطوي مستعد للدفاع عن كيانها الفئوي بكل وسيلة وطريقة وأداة، بينما انقلبت شعوبها إلى بؤساء ومستعمرين (بفتح الميم) يخضعون دون قيد أو شرط لقانون غاب بلا ضوابط. لكن هذه المجتمعات بدأت مسيرة أكدت أنها لم تعد قادرة على العيش في ظل أوضاعها الراهنة، ولا تريد البقاء فيها مهما كان البديل غامضا ومحملا بالمخاطر والمجاهيل.

لا داعي للقول: إن مجتمعات العرب لن تخذل فلسطين، ليس فقط لأنها عاشت ما يشبه تجربتها الكابوسية خلال نصف قرن، وإنما أيضا لأنها حملتها حتى خلال أشد مراحل محنتها في عقلها وقلبها، ومنحتها ولاءها ودعمها، وتعلمت من انتفاضاتها درس الانتفاض من ألفه إلى يائه، وتتلمذت على يديها، فلا عجب أنها تستعرض في أكثر من بلد عربي ما تعلمته، وأن المسار العربي - الفلسطيني غدا واحدا ومثله المصير والتجربة والمآل، بينما العدو يكاد يكون بدوره واحدا في ممارساته، رغم اختلاف التسميات. بقول آخر: تقع فلسطين اليوم في قلب التغيير العام، بل هي قلبه الحقيقي، الذي كثيرا ما نبض بالنيابة عن بقية العرب، ومات وعاش بينما كانوا راكدين ساكنين، فلا غرابة أن تتأسس في قلب هذا العصف العربي الهائل من أجل الحرية، دولة الحرية في فلسطين وعاصمتها القدس الشريف، وأن يسير التطور العربي مع التغير الفلسطيني، الذاهب أخيرا نحو جني ثمار تضحيات علمتنا جميعا أن الضعيف المظلوم يستطيع قهر القوي الظالم، وأن من يصمم على انتزاع حقه يناله مهما طال الزمن.

الجديد الثاني: وضع دولي هزه وخلخله عصف الحرية العربي، وجعله يتوقف طويلا أمام ما يمكن أن ينتج عنه من تبدل كوني هائل الأبعاد، من الحكمة أن لا يقف العاقل في طريقه، خصوصا أن ضرورة قيام الدولة صار قناعة عالمية معترف بشرعيته، وأن الاعتراض عليه لن يكون في صالح المعترضين، كائنا من كانت أسماؤهم، بعد أن بينت التطورات العربية كم هي كثيرة نقاط ضعفهم ومحدودة قدرتهم على ضبط مسارات التاريخ وفق أهوائهم ومصالحهم، وكم يستطيع شعب يطالب بحقه في الحرية والحياة الإفلات من حساباتهم، مهما كانت شاملة ومحكمة.

قد تقف أميركا وبعض دول الغرب ضد الدولة وإعلانها، لكن ذلك لن يوقف مسار صعودها وتقدمها، ولن يكبح قدرتها على التحقق، بل سيفضي من جديد إلى فضح ما تدعيه هذه الدول من إيمان بحق الشعوب في بناء دول وطنية خاصة، وإلى خسارة ما كسبته خلال الحقبة القصيرة، التي أعلنت فيها تأييد الحراك الشعبي العربي العام، وإيمانها بأن الشعوب تستطيع تلمس المسار الصحيح لتطورها، وأن عليها تأييدها ومساندتها خلال ذلك.

ستقوم دولة فلسطين، إن لم يكن في مجلس الأمن حيث ينتظرها الفيتو الأميركي، فبعد حين في الهيئة العامة للأمم المتحدة، حيث تؤيدها أغلبية واضحة تقر بأنها تستند إلى قرارات دولية تم تعطيلها طوال نيف وثلاثة أرباع القرن، فلن تستطيع أميركا الحيلولة دون اعتراف دولي واسع ورسمي بشرعيتها، بعد أن اعترفت بها كافة شعوب الأرض، بل ومنحتها إعجابها ورأت في ثورتها خطوة على درب انتصار العدالة والشرعية على الاحتلال والإجرام المنظمين، وبالتالي، شأنا يتصل بالحق عموما، كما بحقها هي ذاتها في أن تعترف بمن تشاء، وتعبر عن خياراتها الحرة النابعة من ذاتها.

لا حاجة إلى الحديث عن معنى قيام الدولة بالنسبة للمشروع الصهيوني، وإلى السياسة الأميركية غير العادلة وغير المنطقية في القضية التي صدرت أعلى نسبة من القرارات الدولية المؤيدة لها، وعارضتها واشنطن دون وجه حق، وبالنسبة أيضا إلى العالم العربي، الذي كثيرا ما خذل فلسطين ونضالها، ولعب أدوارا سلبية حيالها في مراحل حساسة من نضالها.

ستمثل دولة فلسطين نقلة نوعية في وجدان العربي العادي، وستشحنه بثقة جدية بالنفس، كما ستحدث تبدلا في العلاقات العربية - العربية، والعربية - الإسرائيلية والدولية، ليس فقط لأنها بنت تجارب فريدة من نوعها في الكفاح الوطني، المسلح والمدني، بل كذلك لأنها دولة مغالبة ستعيد الصهاينة إلى حجمهم الفعلي وستكشف هشاشة مشاريعهم، بما أنها ستقوم ضد إرادتهم وإرادة عالم عمل طوال قرن كامل على طمس ما بقي من هويتها وتدمير وإبادة شعبها، خال خلاله أنه حقق ما أراد، فإذا بحقائقها هي: حقائق الشعب العائد إلى وطنه، ترغمه على رؤية الواقع كما هو، وعلى الإقرار بأن قوة في الدنيا لا تستطيع قهر شعب ينشد الحرية ويفضل الموت في سبيلها على الحياة دونها أو في العبودية.

ستضع فلسطين قريبا على رأسها تاج الدولة، التي ستكون بلا شك سيدة دول الدنيا، حتى قبل يوم مولدها العجائبي!