كيف ستتعامل «الأقليات» مع «الإسلام السياسي السني»؟

TT

«لو خرجتم إلى أرض الحبشة، فإن بها ملكا لا يُظلم أحد عنده، وهي أرض صدق حتى يجعل الله لكم فرجا مما أنتم فيه»

(محمد رسول الله، صلى الله عليه وسلم - كما ورد في «تاريخ الطبري»)

مهما تنوعت الآراء فيما بات يسمى «الربيع العربي»، تبقى حقيقة واحدة أزعم أنها فوق أي جدل.. هي أن التحول أخذ معظم المهتمين بالشأن السياسي على حين غرة، مع أنه كان منتظرا ومأمولا.

صحيح ما كان ممكنا استمرار حالة الترهل والوهن، وما كان سهلا مواصلة الهروب إلى الأمام والتفاؤل بحدث ما يقنع المقموع بأن القمع يظل أرحم الخيارات، إلا أن «الدومينو» الذي تداعت حجارته في غضون أشهر معدودات.. نبه الشارع العربي (على مختلف المستويات) إلى أن شيئا ما تحرك؛ إلى أن شيئا ما تحطم فغير كل ما كان يحيط به ويقدم الأعذار البائسة، أو قل الأسباب التخفيفية، على «سرقة» نصف قرن من عمر العرب وتاريخ منطقة الشرق الأوسط.

نعم، فوجئ، حتى أولئك الذين كانوا يعتبرون أنفسهم «خبراء»، بهشاشة الأنظمة المترهلة، وفي المقابل بعنادها الدموي الفظيع.. كما نرى في ليبيا وسوريا واليمن، بالذات.

كان كثيرون يعرفون كم هذه الأنظمة متخلفة وفاسدة، وكم هي جشعة.. لا تشبع ولا ترتوي، لكن هشاشتها وإصرارها على حماية نفسها من شعوبها ببحور من الدم كانا مفاجأة مزعجة ما زلنا نعيشها حتى اللحظة.

نصف قرن، تقريبا، من التدمير الممنهج للحرية والوعي والذاكرة الوطنية والثقة بالنفس، وتدنيس الشعارات الكبيرة، والمتاجرة بكل الأحلام، والاستغلال البشع لشتى الهواجس.

طوال هذه الفترة كان لا بد من نشوء تشدد ديني نابع من القهر، وهروبه إلى عباءة الأصولية، لأن إجاباتها سهلة.. بـ«الأسود والأبيض» بلا «رتوش» ولا فلسفة. وكان هذا الهروب في مصلحة الأنظمة.. التي باركتها لكي تتفرغ لمواصلة ما تخصصت به.

هكذا بتنا أمام مشهد درامي.. المواطن يهرب بإحباطه إلى الوراء ليتدثر بعباءة الدين ويتقي فيها مهانة الإذلال والتدجين السياسي، وفي المقابل، الأنظمة تهرب إلى الأمام لقطع الطريق على المساءلة أو التغيير.. وجعل تكلفة أي إصلاح فوق طاقة الوطن وأهله واستقراره.

لا شك في أن «المعارضات» العربية دون مستوى «الربيع العربي». فالتغيير بدا لفترة طويلة وكأنه حلم بعيد التحقيق.. بينما تركة الإذلال ثقيلة جدا.

أهل السلطة متمكنون ومتجذرون فيها، متمرسون في فن بيع الخدمات وشراء الضمائر، ومتفقون على غاية واحدة.. بينما أولئك الذين هم على الضفة المقابلة نسوا (أو كادوا ينسون) كيف يعترضون ويعارضون، وكيف يتفاهمون.. حتى على ممارسة حق الاختلاف.

اليوم واضح هذا الواقع في سوريا واليمن بالذات. بل إن ما يزيده حساسية في سوريا موضوع «الأقليات».. الذي بات من العبث تجاهله، ولا سيما أن النظام يراهن على استغلاله حتى آخر قطرة، وأن ثمة قوى إقليمية ودولية تنفخ فيه. وكان أخطر ما طرأ في شأنه، أخيرا، موقف البطريرك الماروني بشارة الراعي.

وبعيدا عن محاولات «اللملمة» السريعة لاحتواء الآثار السلبية في الشارعين اللبناني والسوري لكلام البطريرك، البديهي أن موقفه واضح وخياراته قاطعة.. وهو ملتزم تماما بما أثاره. ومفهوم البطريرك الذي يتبنى كليا فكرة «تحالف الأقليات» ضد الخطر السني، يتقاطع اليوم استراتيجيا على مستوى الشرق الأوسط مع مشروعين يبدوان ظاهريا متضادين، هما المشروع الإسرائيلي القديم الجديد، والمشروع الذي تقوده إيران حاليا.. وهو أيضا قديم جديد.

ما شهدناه في المنطقة خلال العقود الماضية، تحديدا منذ تفجر الثورة الإيرانية، كان «مساكنة» حميمة، من سماتها الأساسية الواقعية، وتبادل المصالح، ومواجهة العدو المشترك.. على الرغم من «التضاد» اللفظي المحموم.

وإذا كانت المعطيات كثيرة، بل كثيرة جدا، لتسجيل نقاط التلاقي المصلحي - وآخرها في لبنان الصمت المطبق من جانب حزب الله على إدانة أحد أركان حليفه «التيار العوني» بالعمالة لإسرائيل، فالجانب الأهم يبقى التفكير «العميق»، كما يفضل البطريرك الراعي، في تحديد شكل التعامل مع «العدو المشترك» لمشروعي تل أبيب وطهران إقليميا.

منطقيا هناك أسلوبان للتعامل مع ما يسميه بعضهم «الإسلام السياسي السني»:

الأسلوب الأول هو أسلوب المواجهة «القمعية» و«القهرية» بأي شكل متاح. وهذا ما نراه في حرب إسرائيل على غزة، وتصرف النظام السوري و«شبيحته» مع من يصفهم بـ«المخربين» و«الإرهابيين» على امتداد سوريا، وهيمنة حزب الله على اللبنانيين بقوة سلاح «المقاومة».. وذريعته. وهذا التعامل «القمعي - القهري» قد ينجح أو لا ينجح على المدى القصير.. لكنه على الأرجح محكوم عليه بالفشل على المدى البعيد. وبما أن أهل السنة والجماعة في العالمين العربي والإسلامي يشكلون أغلبية كبيرة تزيد على 70 إلى 75 في المائة، قد يكون بمقدورهم تحمل عدد من النكسات ولفترات زمنية طويلة، تزدهر خلالها في صفوفهم حركات راديكالية تزداد انغلاقا وتقل تسامحا كلما استفحل القمع والقهر. ولكن في نهاية المطاف يكفيهم أن يحققوا انتصارا واحدا لتحقيق الغلبة النهائية.

أما الأسلوب الثاني، فهو الانفتاح والرغبة في التعايش «التكاملي» في ظل ثقافة جامعة كانت الأقليات الدينية والمذهبية في الشرق الأوسط من روادها لقرون كثيرة. ومن ثم طمأنة الأغلبية وتشجيع تيارات الاعتدال والتسامح بداخلها.. بدلا من الانشغال بالتآمر الدائم عليها.

إن الدروس المستفادة من التاريخ عموما، والتاريخ الإسلامي خصوصا، تؤكد أن الانفتاح والتسامح والتفاعل بين مختلف مكونات الدولة كانت دائما من أبرز سمات الدول القوية الصاعدة، بينما كان القلق والتقوقع وكره الطرف الآخر في طليعة ملامح الدول المتداعية في مراحل انحطاطها. التشارك في قطف ثمار التقدم حالة عاشتها الدولة الإسلامية مرارا في عصورها الذهبية، بينما ظهرت طروحات الشك والتخوين، وصولا إلى التكفير، في كل الحقب السوداء من تاريخها.

الكرة حقا ليست في ملعب واحد، كما يقال، بل هي في الملعبين. ملعب الأغلبية السنية التي عليها أن تقرر ما إذا كانت حقا ترى لها مصلحة في التغيير وبسرعة نحو مجتمع تعددي ومنفتح ومتسامح وديمقراطجي، وبالتالي مستعدة لتقبل ثمنه. وملعب «الأقليات» الدينية والمذهبية - والعرقية أيضا - التي عليها إدراك أن في صميم مصلحتها «تهذيب» غريزة البقاء التي تتحكم بها، فتبادر بشجاعة وحكمة إلى تشجيع صدقية تيار الاعتدال السني.. بدلا من إسداء الخدمات المجانية المكلفة جدا لتيار التشدد والإلغاء، وهو «خيار شمشوني» انتحاري للفريقين.