الفيتو الأميركي يسرق الثورات

TT

السلطة الفلسطينية ربما أضعف كيان سياسي موجود في العالم، ولكن في الضعف قوة، والضعيف ليس عديم الخيارات أمام الفيتو الأميركي الذي تلوح به واشنطن أمام محاولة الفلسطينيين إعلان دولتهم من خلال الأمم المتحدة. محمود عباس لديه خيارات جدية يستطيع بها هزيمة الفيتو الأميركي قبل استخدامه، ويستطيع تفريغه من مضمونه لو أحسن الفلسطينيون استخدام أوراقهم القانونية والسياسية.

وقبل الحديث عن خيارات عباس، يجب أن يدرك الغرب، والولايات المتحدة الأميركية تحديدا، أنه في المواجهة القادمة بين الفلسطينيين وأميركا في الأمم المتحدة سوف تأخذ أميركا كل الزخم في الثورات العربية ورياح التغيير فيها وتعيد توجيهها إلى غضب ضد عجرفة الغرب وظلمه مرة أخرى. فبدلا من أن تتركنا أميركا نعيد ترتيب بيوتنا الداخلية سوف تأخذنا خارجها مرة أخرى، وبدلا من أن تسهم الولايات المتحدة إيجابيا في عملية التحول الديمقراطي في المنطقة سوف تفعل بمواجهتها الفلسطينيين في الأمم المتحدة كما كان مبارك يفعل، بترحيل القضايا الصعبة وتحميل كل المشكلات على القضية الفلسطينية. ولقد بدأت فعلا سلسلة تفريغ الثورات من مضمونها وإعادة توجيه الغضب إلى الخارج من خلال حادثة الاعتداء على السفارة الإسرائيلية في مصر، وسوف تتوّجها الولايات المتحدة بالفيتو الأميركي ضد الدولة الفلسطينية في الأمم المتحدة، ونعود بعد ذلك إلى المربع الأول مرة أخرى، وكأنك يا أبو زيد ما غزيت.

إذن ومن أجل خيار استراتيجي أكبر، وهو استقرار المنطقة بصيغتها الجديدة وإعطاء الفرصة لمشهد استراتيجي مستقر جديد، يجب على أميركا عدم استخدام الفيتو هذه المرة والبحث عن وسائل أقل استفزازا إن كانت مصرّة على المواجهة. الفيتو الأميركي سوف يفرغ الثورات العربية من مضمونها، وهو بمثابة مؤامرة على التحول الديمقراطي في المنطقة. لدي أصدقاء غربيون كثيرون ممن يعملون في المجال السياسي كتنفيذيين، ولكن ملاحظتي على معظمهم هذه الأيام هي عدم قدرتهم على استيعاب المشهد الشرق أوسطي بصورة استراتيجية بعد انفجار الغضب الشعبي في المنطقة، والراغب في الانتقال بمجتمعاته من حالة التكلس الدكتاتوري إلى حيوية ديمقراطية، أو على الأقل تعددية تحفظ الكرامة الإنسانية. يجب على الدبلوماسية الغربية أن تنتقل من حالة التكتيك اليومي إلى الرؤية الاستراتيجية الأشمل.

هذا لا يعني بالطبع أن الفلسطينيين عديمو الخيارات في مواجهتهم الدبلوماسية مع إسرائيل وحلفائها، رغم أن إسرائيل تشن حملة دبلوماسية شعواء ضد تحركات محمود عباس في الأمم المتحدة. فما هي الخيارات المتاحة أمام الفلسطينيين؟

الخيار الأقل تكلفة للفلسطينيين والذي يهدئ الثور الأميركي الهائج هو خيار الفاتيكان. أي أن يطلب الفلسطينيون تعديل وضعهم من مراقب إلى دولة ذات سيادة لكنها ليست عضوا في المنظمة الدولية، وهذا يفتح للفلسطينيين الأبواب الدبلوماسية المفتوحة ذاتها التي للفاتيكان. أي الاعتراف بهم كدولة ذات سيادة وذات تمثيل دبلوماسي وعضو في كل الوكالات المتخصصة للأمم المتحدة، وكذلك لديها القدرة على طرح قضاياها كدولة أمام المحكمة الجنائية الدولية. وربما هذه الميزة الأخيرة هي التي سوف تجعل الإسرائيليين يفقدون عقولهم، فهم يتخوفون من أن تأخذ الدولة الفلسطينية الوليدة كل قادة إسرائيل إلى المحكمة إذا ما مُنحت صفة دولية كصفة الفاتيكان. ولكن مثل هذه الخطوة المخيفة لإسرائيل لن يكون لها التأثير الجنوني نفسه على الأميركيين، فليس كل ما يخيف إسرائيل يستجيب له الأميركيون مباشرة ومن دون دراسة، على العكس قد تجد هذه الخطوة من يرحب بها في واشنطن وقد تجد دعما أوروبيا أيضا، خصوصا أن الدول الأوروبية الفاعلة مثل بريطانيا وفرنسا لم تبلور موقفها الدبلوماسي بعدُ تجاه تحركات الفلسطينيين.

أمام محمود عباس خيار سلمي آخر، ولكن يجب أن يجعله خياره الأخير، وهو أن يعلن للجميع وفي قلب الأمم المتحدة أنه قد قام بكل ما طلبه الغرب منه، وما طلبته منه الولايات المتحدة تحديدا، وها هي السنوات تمر والمفاوضات تتوقف ولم يحدث أي تقدم يُذكر، لم يلقَ الدعم الدولي المطلوب للشعب الفلسطيني، بل ازداد الانقسام في المجتمع الفلسطيني، مما يسهم في عملية تشظي تستهدف كل الشعب وربما القضية الفلسطينية برمتها. ومن هنا تكون عبارة محمود عباس الحاسمة التي تصدم الجميع، يقول فيها عباس وبوضوح بعد سرد المبررات: «لذا ومن هذا المنبر الدولي، وأمام كل دول العالم وشعوبه ومن يمثلهم هنا في هذا المكان، أعلن استقالتي من منصبي كرئيس للسلطة الفلسطينية، ومن هنا أيضا أعلن حل السلطة الفلسطينية، وأحمّل الإسرائيليين والأميركيين والمجتمع الدولي المسؤولية الأخلاقية والتاريخية تجاه الشعب الفلسطيني». ويترك بعدها عباس المنصة إلى الطائرة مباشرة.

بين هذين الخيارين هناك عشرات الخيارات الأخرى في سلم خيارات محمود عباس، ولكن ما أحذر منه في هذا المقال القصير هو أن لا يلتفّ حول عباس من يعلنون أن كل ما يفعله الفلسطينيون هو مجرد وسيلة ضغط من أجل إجبار الإسرائيليين للعودة إلى طاولة المفاوضات، فعبارات كهذه ستكون هي قبلة الموت بالنسبة لكل الجهد الفلسطيني. ومع ذلك وأنا أكتب هذه الحروف أرى الوجوه الفلسطينية التي تريد أن تقول هذه العبارة الأخيرة، إما محاولة لتحقيق مكاسب شخصية صغيرة، وإما لأن بعضنا أحيانا يحب أن يتذاكى أمام الدبلوماسيين الغربيين، لكي يقال عنه إنه «ولد فاهم ومتعلم في الغرب». أرجو أن يلتزم الجميع الجدية، وبشيء من الرجولة يصرّ الفلسطينيون على استخدام كل خياراتهم هذه المرة من دون أي تلميح للعودة إلى مائدة التفاوض، على الأقل الآن.