الأمير تركي.. مقالة أم صرخة؟

TT

قرأت بتمعن المقالة المهمة التي نشرها الأمير تركي الفيصل في صحيفة «نيويورك تايمز»، بعنوان «استخدموا الفيتو ضد الدولة الفلسطينية.. اخسروا تحالفكم مع السعودية». ولعل الأهمية الاستثنائية لهذه المقالة تكمن أولا في الكاتب، فهو سياسي سعودي مخضرم، شغل مواقع أساسية تؤهله لمعرفة مجريات الأمور في ما يتصل بمطابخ القرار السياسي في بلده وفي العالم، وبالذات في الولايات المتحدة. وثانيا في التوقيت، حيث بلغ الفرز في المواقف ذروته في أمر دعم أو إحباط التوجه الفلسطيني والعربي للاعتراف بالدولة الفلسطينية، ثم أخيرا، جرأة التنبيه في أمر العلاقة السعودية الأميركية، حيث وضع الأمير مسألة الفيتو في سياق ينطوي على قدر من الحسم.

وبمراجعة الملف السعودي الأميركي تجاه الشأن الفلسطيني والشرق أوسطي، فإننا نرى في مقالة الأمير تركي الفيصل، ما هو منسجم مع السياق الأساسي للموقف والدور السعودي، فالوقائع التي تظهر دخول الجانبين أزمات جدية بخصوص المسألة الفلسطينية والمواقف من الحقوق العربية أكثر من أن تحصى، وأعمق تأثيرا على مدى نصف القرن الماضي، بما في ذلك وصول العلاقات بين البلدين الحليفين إلى الخطوط الحمراء، سواء حين تم استخدام سلاح النفط في السبعينات، أو حين أجلت زيارة خادم الحرمين الشريفين لواشنطن دليلا على تصاعد الأزمة آنذاك.

وفي كل مرة كانت الأزمات تهدأ.. ليس بفعل تراجعات عن المواقف.. وإنما بفعل حسابات موضوعية، يعرف الجميع مدى تأثيرها على واقع العلاقات مع أميركا.. وجوهرها اختلال ميزان القوى بين العدالة والواقع. فالعدالة دائما إلى جانب العرب، والحديث هنا يدور عن تمثيلهم السعودي، أما الواقع بكل مؤثراته السلبية فإنه يتنامى لغير مصلحة العدالة بالتأكيد.

وفي كل أزمة سعودية أميركية، كان الخوف يأتي أولا من ضعف الجبهة العربية التي يفترض أن المملكة تستعين بها في تحديد أو ممارسة مواقف متعارضة مع السياسة الأميركية، وثانيا من الدرجة العالية من حالة الفوضى السلبية والشد إلى الخلف، والتي تميز واقع الدول الإسلامية، التي لا جدال في صدقية الصدارة السعودية لها، سياسيا واقتصاديا ودينيا. يضاف إلى ذلك عمق العلاقات الأميركية الإسرائيلية المعززة على الدوام بمؤثرات صهيونية بالغة القوة والتأثير في صنع السياسات الأميركية الشرق أوسطية وكيفية تنفيذ هذه السياسات، إلى أن تكرست وحتى الآن معادلة في منتهى الغرابة.. وهي أن الموقف اللفظي الأميركي إلى جانب العرب أما محصلته التطبيقية فإلى جانب إسرائيل.

وأسوق مثالا نموذجيا على ذلك وهو خطابات أوباما التصالحية مع العرب والمسلمين، وفوقها مواقفه المميزة ضد الاستيطان، ومن ينسى «شجرة أبو مازن» ووعوده المفترض أنها قريبة من القرارات في أمر الدولة الفلسطينية ومقعدها المأمول في الأمم المتحدة.. كانت هذه مواقف جديدة وجيدة بمنطوقها اللفظي.. وحين ذهبنا إلى الواقع السياسي المعيش، لم نجد غير الفيتو والتهديد والوعيد، والتسابق على التصفيق وقوفا في الكونغرس أمام نتنياهو وهو في أسوأ أوضاعه الداخلية والسياسية والإعلامية، حيث ذكرنا ذلك بأن «كونغرس القطب الوحيد في الكون» تحول إلى ما يشبه مؤتمرات القذافي الشعبية، وإذا كان التحيز الأميركي لإسرائيل (ظالمة أو ظالمة) بلغ أوجه في هذه الفترة الحرجة من عمر الشرق الأوسط وربما العالم، فإن ما يثير الأسى هو ذلك الإلغاء الكامل لمساحة الاستقلال الأميركي في وضع السياسات وتطبيقها في ما يتصل بالشرق الأوسط.

وما أقصده بالضبط أن الدولة العظمى تبدو في كثير من الحالات مجرد مقطورة تجرها المركبة الإسرائيلية بأي اتجاه يريده سائقها، وذلك ليس فقط في أمر المواقف الأساسية وحتى المتوسطة، وإنما في أمور أقل من ذلك بكثير.. ولندع مثقفي إسرائيل يصفون الحالة.. فقد قالوا وكتبوا «إننا نعتمد في كل شيء حتى في تمرير الخيط من مسام الإبرة على أميركا»، حتى إنهم لم ينسبوا واقعة إنقاذ حراس السفارة الإسرائيلية في القاهرة لرجال الكوماندوز المصريين وإنما لضغوط أوباما، وقيادته التفصيلية من البيت الأبيض، كما لو أن العملية تجري في جادة بنسلفانيا في العاصمة واشنطن، أي تحت نوافذ المكتب البيضاوي.. إنها معضلة حقيقية تواجهها صناعة القرار في واشنطن.. غير أن من يدفع ثمنها هم الحلفاء الإقليميون والكونيون للدولة الأميركية العظمى.. تعالوا نقرأ بعض التفاصيل، وأبدأ بالسلطة الوطنية التي هي ليست مجرد حليف لواشنطن وإنما جسم من صناعتها بامتياز.. كيف هو حالها الآن..؟ إنها متراجعة من كل النواحي.. ولا شك أنه كان بمقدور واشنطن أن تعمل أكثر كي لا تصل الأمور إلى هذا الحد رغم كل الأخطاء والخطايا التي نسبت للسلطة منذ ولادتها حتى يومنا هذا ومعظمها صحيح.

وبعد السلطة الوطنية كيف هو حال قوى الاعتدال العربي التي تفقد نفوذها بتدرج متسارع، فاتحة الباب لغموض مصير غير مسبوق في إحدى أهم بقاع العالم وهو الشرق الأوسط، ومقياس الأهمية هنا ليس النفط وإنما الجغرافيا والسياسة ودرجة التأثير على العالم. إنني لا أحمل الولايات المتحدة مسؤولية تردي الأوضاع الداخلية في العالم العربي.. فالعرب لم يقصروا في ضرب أنفسهم.. إلا أن الصلة بين ما يجري في الداخل وما يحيط به من تطورات جذرها عدم حل النزاع العربي الإسرائيلي، يظهر مدى صلة أميركا بالواقع. وفي هذا المجال.. عملت أميركا شيئا وأهملت أشياء.. فكان ما أُهمل خطر على ما أنجز، فوجدنا أنفسنا على وشك العودة إلى أوضاع ما قبل عام 1967 أو إلى أجوائها.

معاذ الله مرة أخرى أن أُبرئ العرب من تنكيلهم بذاتهم، وقهر شعوبهم وتبديد ثرواتهم على مغامرات لا يقدم عليها أصغر المراهقين. إلا أن كلمة السر التي يدركها الجميع، كانت مسألة الصراع العربي الإسرائيلي، ما دام هذا الصراع من دون حل.. فكل احتمالات الخراب قائمة ومتنامية بما في ذلك توفير الرداء السحري لتغطية كل الموبقات الداخلية.. «وهو ادعاء خدمة القضية المركزية».. وفتشوا عن أموال ليبيا في هذا السياق.

إن ما كتبه الأمير تركي هو صرخة أكثر مما هو مقال أو موقف أو تحليل.. صرخة تقول للأميركيين وحتى الأوروبيين إن تدهورا متسارعا وخطيرا يفرض إيقاعاته وآثاره المدمرة على المنطقة، وأول المتضررين حلفاء أميركا.. فهل تستمر الدولة العظمى، أو القطب الكوني الأوحد، في سياسة رعاية التدهور ومعالجة السرطان بأقراص الأسبرين؟.. أم أنها ستحسب جيدا.. وتعدل المسار؟

ليس المطلوب من أميركا أن تحدث انقلابا في سياساتها وتحالفاتها.. وإنما المطلوب حقا هو خدمة الحقيقة الموضوعية بقدر معقول من التوازن.. ليس بين ليبرمان ومن يقابله على الجانب العربي إن وجد، وإنما بين أميركا ومصالحها ومُثلها وبين العالم الذي ضاق ذرعا بما يجري.. ووضع أقوال أميركا وأفعالها تحت مجهر أكثر دقة ربما يؤثر على تذبذب في المصداقية.. وتراجع ذريع في الثقة.