تركيا التي لا نعرف

TT

بدأت السيدة المذيعة في إحدى محطات التلفزيون الخاصة، المذاعة من مصر، في ليلة وصول رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان للمحروسة، في تعريف الجمهور بتركيا، فقالت دون تردد: إن تركيا لا يرفع فيها أذان، ولا يسمع فيها جرس كنيسة!! ثم ابتسم زميلها المقدم الثاني للبرنامج فأجهز على كل معلومة صحيحة خاصة بتركيا.

هكذا كان بعض الإعلام العربي فقيرا تجاه المعلومة الصحيحة عن تركيا، وكذلك الجمهور السياسي العربي، الذي قابل جولة الطيب أردوغان في عواصم الربيع العربي، تونس والقاهرة وطرابلس الغرب وكأنها انتصار نوع محدد من الآيديولوجيا السياسية.

تركيا، منذ أن تخلصت من الدولة العثمانية، بعد الحرب العالمية الأولى، أعطت ظهرها للعرب، لأسباب قومية واقتصادية خاصة بها، كما أن العرب لم يكادوا يتعرفون على ما يحدث في تركيا طوال الـ80 عاما الماضية، هي توجهت إلى مكان، وانشغل العرب بقضاياهم في مكان آخر.

فقط منذ عقد من الزمان، أو ربما منذ عقدين، بدأت تركيا لأسباب استراتيجية تتذكر حديقتها الخلفية، البلاد العربية، وهو تذكر ربما له أكثر من سبب، على رأسه عاملان: النفط العربي، وبالتالي الاقتصاد الجديد، والتعالي الأوروبي في قبول تركيا كعضو عامل ونشط في السوق الأوروبية المشتركة.

لست من المدرسة التي ترى في الموقف التركي الأخير تجاه العرب أنه استفادة من ظرف سياسي، له مقاصد خفية، كما أنني لست من المدرسة التي تقول إن تركيا أقبلت على العرب لأنها تريد أن تتبنى كل قضاياهم وتدافع عنها في المحافل الدولية. إقبال تركيا له أسباب تركية، كتبت وقيلت علنا أكثر من مرة من نافذين في الحكم الحالي وهي «التأثير القوي في الإقليم» كما كتب وزير الخارجية التركي.

فمعالجة الموقف التركي تجاه العرب من الناحيتين الأخلاقية أو المبدئية، كلتاهما خاطئة. لقد خاضت تركيا الحالية مسيرة طويلة من التجارب السياسية المريرة، استغرقت على الأقل نصف قرن من الزمان، كانت من بينها التجربة القومية المتعصبة، والديكتاتورية القامعة، والعسكرية المتسلطة والحزبية الفاسدة. تجربة طويلة استهلكت أكثر من جيل تركي، وأفقرت تركيا بالأزمات الاقتصادية والتضخم المفرط.

في السنوات العشر الأخيرة، ونتيجة لتطور أوروبا، وأيضا خوفها من اضطرابات في الجنوب الأوروبي والشمال الآسيوي والأفريقي، بدأت الأبواب مواربة لتركيا للدخول في السوق الأوروبية المشركة ولو بصفة التأهيل المتدرج، فدخلت الاتحاد الجمركي الأوروبي، وبدأت تستجيب إلى الشروط والمواصفات الأوروبية في الصناعة والخدمات وما جاورها، ومن بينها ضبط القوانين التي تتلاءم مع المواصفات الأوروبية. ذلك كله من أجل طموح كبير، هو الدخول إلى تلك السوق الكبيرة، واستخدام الميزة التنافسية التركية، وهي مواد خام وأيدٍ عاملة أرخص، للحصول على مميزات للاقتصاد التركي في رقعة الشطرنج الأوروبية تنقذه من أزماته.

تلك الجهود كلها، التي كانت موجهة إلى أوروبا أنتجت ما يمكن أن يسمى النتائج غير المحسوبة؛ فمن الناحية الاقتصادية أصبحت هناك جودة للمنتج التركي، تقبله الأسواق الأوروبية، كما تلقفته الأسواق الإسلامية الواسعة، ومن الناحية السياسية اضطرت تركيا للتخلي عن خطابين متناقضين وإقصائيين شديدي العداء، اشتدا في التنافس فيما بينهما في عقدي الثمانيات والتسعينات من القرن الماضي، وهما الأتاتوركية في ثوبها الإقصائي القومي المنغلق، وأيضا بذور إقصائية أخرى برداء إسلامي هي الأربكانية (نسبة إلى نجم الدين أربكان) الذي حاول، في النصف الثاني من تسعينات القرن الماضي مع مناصريه، أن يأخذ تركيا على طريق الجمهورية الإسلامية الإيرانية.

إذن حزب العدالة والتنمية، الحاكم اليوم في تركيا، هو محصلة إيجابية بين إقصائيين، وهو تحالف بين قوى معتدلة، فقد اتخذ موقفا في التوفيق والتعايش بين خيارات متعددة، واتخذ الوصول إلى حلول وسطى في القضايا السياسية التركية، واستفاد من الإصلاحات التي تطلبتها السوق الأوروبية في تجويد الصناعة والخدمات في بلاده وضبط القوانين، الأمر الذي أصبحت بعدها صناعته مطلوبة في أسواق الحديقة الخلفية العربية الإسلامية لتركيا، وهي سوق واسعة.

تركيا الحالية مكونة من عدة أعراق، هناك فروق بين غربها الصناعي وشرقها الزراعي، 19% من سكانها تحت خط الفقر، حكومتها الحالية لم تحصل إلا على نصف أصوات الناخبين، دستورها حديث يصنفها كدولة مدنية ويمنع تأسيس الأحزاب ذات المرجعيات الدينية أو العرقية، وهناك حدود دنيا وعليا يعمل في إطارها النظام القائم.

لا ضرر من تنمية العلاقة العربية مع تركيا الحالية، من أجل مصالح مشتركة، الضرر هو اللهفة العربية العاطفية في بعض الأوساط، وإظهارها للعامة «مثالا إسلاميا للحكم». هذه اللهفة تدل إما على جهل وإما على تجهيل. هي دولة تحكم اليوم بثقافة سياسية عنوانها التحالف والقبول بالآخر، وتحكم بآليات حديثة، تنفر قانونيا من الفساد، وتحترم تداول السلطة من خلال صناديق الانتخاب وتعظم حقوق الإنسان، لها أيضا مناطق الضعف، خاصة تجاه الأقليات، التي ورثتها من تركيا الأتاتوركية.

بهذه الصورة علينا أن نفهم تركيا الحالية، دون حب قاتل، أدى إلى أن يسمى عدد كبير من مواليد غزة باسم الطيب أردوغان، ولا عداء مستنكف. تركيا كانت صديقة لكل من سوريا وإسرائيل حتى أشهر خلت، إلى درجة أنها كانت الواسطة المقبولة بينهما، تغيرت الظروف فتغيرت المواقع السياسية. كانت الحاضنة، حتى أشهر، لكل خدمات القمة العربية في سرت الليبية، وقبلها القذافي كصديق صدوق، ثم تغير الأمر، فكان أردوغان أول من زار الإدارة الليبية الجديدة، قبل أي مسؤول عربي كبير، وهكذا هي السياسة، الموقف من إسرائيل له تبريراته التركية، قبل العربية.

من جانب آخر، الاقتصاد التركي اليوم هو سادس اقتصاد في العالم، وشركات المقاولات التركية في المرتبة الثانية بعد الصينية عالميا. ولم يأتِ هذا التفوق بسبب آيديولوجي، بل بعد معاناة اجتماعية واقتصادية وسياسية وإصلاحات جذرية، قامت على قاعدة مكونات الدولة الحديثة وأساسها رفض غير معلن لقداسة الآيديولوجيا في حكم الشعوب، وتجذير الديمقراطية وتحويلها إلى ثقافة شعبية. علينا أن نعرف تركيا التي لا نعرف.

آخر الكلام

كم تكلفة الربيع العربي البشرية؟ يجري الحديث عن 50 ألف قتيل في ليبيا، و6 آلاف في سوريا، وبضعة آلاف في اليمن، والحبل على الجرار، ويتحدثون عن حقوق إنسان!! أي إنسان؟!