الحاجة إلى وصفة جديدة للمستقبل

TT

الفكرة واردة في أذهان كثيرين، وهي أن النظام في مصر هو المسؤول عن صنع حسني مبارك ورجاله وليس العكس، يقول ذلك فتحي عبد الغني (جريدة «القاهرة» في 20 سبتمبر/ أيلول 2011). وبذلك يكون كل رجال الحكومة السابقة الذين تراهم في قفص، ليسوا هم المنتجين لكل الأفكار السيئة التي يحاسبون عليها ويحاكمون من أجلها، بل هم نتاج لها. وبذلك تكون تهمتهم الوحيدة هي أنهم استسلموا لها وعملوا بموجبها، مما أوصلهم لطريق مسدود فوجئوا في نهايته على غير توقع منهم بالطبع بالناس يطلبون إبعادهم أو بالدقة، إزالتهم.

وهي نظرة تفترض أن رجال السلطة أسرى لنظام أو لقاعدة من الأفكار سابقة على وجودهم في الحكم، يستندون إليها ويتحركون فوقها طبقا لقوانينها، وكأنها أوامر فرضت عليهم من سلطة أعلى تجعلهم غير مسؤولين عن أفعالهم، وهو ما لا يمكن التسليم به لأنه يعفي الإنسان من مسؤوليته عن أفعاله، وإن كانت هذه النظرة تصلح تفسيرا لظواهر عديدة حدثت قبل الثورة وبعدها. ومن هذه الظواهر سخط الثوار وغضبهم، لأن الثورة وإن كانت قادرة على القبض على عدد من رجال النظام ووضعهم أمام منصة القضاء، فإن النظام نفسه ممثلا في آخرين ما زال موجودا.

الواقع أنك لو تمكنت من الحصول على أكبر عدد ممكن من الرجال والنساء، لم يحتلوا منصبا في النظام السابق، وعينتهم في كل المناصب الرئيسية في مصر وفي الواقع الحاكمة، فلا بد أن تفاجأ بعد أيام بأنهم هم أنفسهم بقراراتهم وأفكارهم وأسلوبهم في العمل، لا يختلفون في كثير أو قليل عن النظام السابق، وأنهم ما زالوا يمارسون نفس هوايات وألاعيب النظام السابق. مرة أخرى إنها الأفكار السائدة في المجتمع نفسه وليس في مجال السلطة فقط. هناك قيم عديدة فاسدة في المجتمع استطاعت أن تخفي فسادها عن العقل البشري، بل حولت هذا الفساد أحيانا إلى قيم عليا تستوجب الاحترام، ومن هذه القيم الفاسدة «الكذب من أجل الوطن»، وهي حالة كانت شائعة، أن تكذب على نفسك وعلى الناس باعتقاد أنك تخدم الوطن، وكأن الوطن يفرض على المسؤولين فيه ألا يزعجوا الناس بالأخبار غير السارة، غير أن الأكاذيب تظل أكاذيب في كل الأحوال، بمعنى أنها تمشي بالمجتمع ككل في طريق الخطر. سأعطيك مثالا.. اكتشفت جهات التحقيق أن ثريا مصريا هو الذي يقف وراء حادث مهاجمة السفارة الإسرائيلية، وأنه أحضر عددا كبيرا من البلطجية ووزع عليهم مبالغ طائلة، من المال، ما بين خمسة آلاف جنيه إلى اثني عشر ألف جنيه، وقدم لهم في مزرعته وجبة عشاء فاخرة لدرجة أنهم عجزوا عن التعرف على نوع الطعام المقدم لهم، غير أنهم لا يعرفون من هو، كل ما يعرفونه هو أنه شخص له «هيبة»، ثم أصدر لهم الأوامر بالتجمع في المكان الفلاني لتنفيذ العملية. هذا الخبر يصلح مثالا ممتازا لما أسميه «الكذب من أجل الوطن»، غير أن ما يشعرك بالإهانة في هذا الخبر هو أن أجهزة الأمن عجزت عن معرفة ذلك الشخص صاحب الهيبة، على الرغم من أنها بالطبع تعرف مكان مزرعته، وتستطيع أن تسأل عنه خفير المزرعة المجاورة. الواقع أنني لن أدهش عندما أفاجأ بأنه لا وجود لهذا الشخص أصلا.

أعود الآن لفكرتي الأساسية، وهي أن هناك قيما وأفكارا سائدة ليس في مصر وحدها بل في كل بلاد الربيع العربي: تونس، مصر، ليبيا، اليمن.. وهو ما يفرض علينا جميعا أن نعرفها، ليس كهدف من أهداف البحث الاجتماعي والسياسي بل لنتمكن من اتخاذ الطريق الصحيح الذي نمشي فيه.. لا بد من وصفة للمستقبل، وصفة نعرف بها ما هي الأطعمة المسمومة التي أكلناها طوال سنين عديدة. بغير أن نعرف ما حدث في هذه البلدان على الأقل، فنحن نغامر بالمشي في طريق ترصعه الجثث والأجسام النازفة والمباني المهدمة. أستطيع أن أحدثك عن مصر، ويستطيع كتاب كثيرون في بقية البلاد بوصفهم شهود عيان وضحايا أيضا، غير أنني أفكر في كتاب كبير تتولى الجامعة العربية مسؤولية إعداده، بحث لا نقوم به وحدنا، بل باحثون يتم اختيارهم من العالم كله.

أفهم جيدا ما حدث في مصر، عندما وجدت العسكرية المصرية أن المطلوب منها أن تقتل الناس دفاعا عن النظام رفضت ذلك على الفور، ومشت بالبلاد في طريق آخر لا تسفك فيه دماء الناس، فلماذا لم تفعل ذلك القيادة العسكرية في سوريا؟ ما هو الفرق بين التركيبتين النفسيتين؟ أي تعليم تلقاه هؤلاء الضباط عندما كانوا أطفالا؟ أي حواديت استمعوا إليها؟ أي ثقافة سائدة أثرت في تكوينهم؟ وأيضا ضباط الجيش الليبي الذين ما زالوا يفتكون بشعبهم في معركة خاسرة بكل المقاييس، ماذا دهاهم؟ كيف يطيعون مخبولا لا يريده شعبه؟ هل هي الفلوس وحدها، أم الخوف، أم هو الإخلاص الأعمى لقيادتهم الأبدية؟

والتعذيب الذي يمارسه رجال الأمن في سوريا وغيرها بمنهجية وإتقان.. ما هو التعليم الذي تلقاه هؤلاء، وما هي فكرتهم عن أنفسهم وعن الآخرين؟ ترى ما هي الأبعاد النفسية لجماعة من البشر تعذب طفلا وتقطع عضوه التناسلي، من أجل الوطن طبعا؟ ما هي فكرتهم عن الوطن؟ لا بد من إجابات واضحة عن كل هذه الأسئلة.

لا بد أن يحدثنا عن ذلك أصحاب العلم والمعرفة في كتاب كبير يغطي كل مجالات الدوافع البشرية لكي نتفادى ذلك في المستقبل، وأرى أن الجامعة العربية هي الوحيدة المؤهلة للقيام بهذا الدور. أعرف أن فهم الأحداث وهي ساخنة أمر صعب، لست أتكلم عن التأريخ والمؤرخين، غير أننا على الأقل يجب أن نترك للمؤرخين شهاداتنا التي تساعدهم في فهم ما حدث. وفي اليمن تنشق بعض فرق الجيش وتعلن انضمامها إلى الثوار، غير أنها لا تصنع شيئا لإيقاف المذبحة الدائرة، ولا تفعل شيئا للوصول إلى الحكم، على الأقل لصنع واقع مختلف، وكأن كل الأطراف اتفقت على مواصلة القتال ضد بعضهم بعضا بغير هدف واضح.

في كل صباح، مع القهوة، أفتح التلفزيون على نشرات الأخبار ككل المشتغلين بتلك المهنة سيئة السمعة، الكتابة والقراءة، ليس لأعرف ما يحدث، بل لأحصل على نصيبي من التعاسة التي تفسد علي بقية النهار. كيف يستطيع الإنسان أن يواصل نهاره بحالة طبيعية عندما يشاهد كل هذا الدمار وهذه الدماء في الصباح؟ ولكن إذا كنا قد عجزنا عن صنع حاضر جيد، فعلينا على الأقل أن نعرف وصفة طيبة إلى المستقبل، وهو ما يتطلب معرفة ما حدث لنا.