مع أي أوباما نتخاطب؟!

TT

حين برز باراك أوباما رئيسا للولايات المتحدة، تفاءل كثيرون بوجوده. البعض تفاءل به لأنه رجل أسود، وقالوا إن الرجل الأسود بالضرورة، لن يكرر أخطاء البيض، لأنه لا بد يستذكر ظلم الرجل الأبيض للرجل الأسود. والبعض تفاءل به لأنه لم يصل إلى الرئاسة بأصوات اللوبي اليهودي. لا نقول إنه كان ضد اللوبي اليهودي، بل إن اللوبي اليهودي لم يكن العنصر الأساسي في حركته السياسية. وتفاءل البعض الآخر بسبب خطاباته الأولى التي وجهها للعالم الإسلامي والعربي، وحملت لغة مختلفة عن لغة الرؤساء الأميركيين الآخرين، لغة حاولت أن تقول: إنني أفهمكم. وهي كلمة لم تكن واردة في قاموس الرؤساء الأميركيين السابقين.

ولكن من يراقب مواقف أوباما الآن، من يراقب مواقفه ولغته في الحديث والخطاب، يكاد يجد أمامه أوباما آخر، أوباما يشتط في إعلان تأييده لإسرائيل. أوباما يشتط في إعلان معارضته للمواقف السياسية الفلسطينية. إنه لا يرفض هذه المواقف، ولا ينصح أصحابها بتغييرها، بل يهددهم بأنه سيستعمل «الفيتو» ضدهم. وقد قام أوباما بنقل شخصيته من موقع إلى موقع، بسرعة وعجلة، والكل يقول ويردد الحجة التقليدية في تفسير هذا التغير، وهي الحجة التي تحصر الأمر في حاجته إلى اللوبي اليهودي من أجل تجديد ولايته. وهذه حجة مردودة، إذ لم يحدث أن أعلن الرئيس أوباما عن أي موقف يمس إسرائيل، بل أكد دائما أن أميركا تضمن أمن إسرائيل. وهذا وحده من شأنه أن يضمن له تأييد اللوبي اليهودي في الانتخابات المقبلة. ولكن أوباما يتجاوز هذا الأمر حتى ليبدو وكأنه يخوض معركة مع العرب ومع الفلسطينيين، سواء في لغته أو في حدة مواقفه، حتى إنه لا يتورع أن يقول للرئيس الفلسطيني إنه ضد سعيه لطرح موضوع الاعتراف بدولة فلسطين في مجلس الأمن، ولا يتورع أن يقول له إنه سيستعمل «الفيتو» ضده، بينما جرى العرف الدبلوماسي، أن هذه الأمور تقال في التصريحات والبيانات، ولا تقال في جلسات اللقاء، بحيث يدخل أي رئيس أجنبي إلى اللقاء مع الرئيس الأميركي، وقد سبق اللقاء بيان يعلن الموقف الأميركي المعارض لموقف الرئيس الضيف، بحيث يفهم الرئيس سلفا طبيعة اللقاء وطبيعة نتائجه، ومن دون مواجهة كلامية صعبة بين الطرفين، وهنا يحافظ الطرفان على جو اللقاء وعلى التهذيب في التخاطب، ومن دون أن يتنازل أي طرف عن موقفه.

نقول هذا، لأن أوباما جاء إلى الرئاسة بعد ثلاثة رؤساء، كانت مواقفهم شديدة الصلابة، وشديدة التعبير عن المصالح الأميركية، حتى وهي في حالة عداء مع الكثير من دول العالم. بينما جاء أوباما إلى السلطة وهو يحرص على الإيحاء بأن نهجه السياسي سيكون مختلفا، وسيكون ميالا إلى الاعتدال. بينما هو الآن يميل إلى التطرف، لا بل يميل إلى القسوة في التعبير، التي لا تترك مجالا لمحب كما يقول التعبير العربي.

لقد جاء أوباما إلى السلطة بعد الرئيس جورج بوش الأب، الذي وصل إلى السلطة عند سقوط الاتحاد السوفياتي، وبعد حرب الخليج الأولى، وتوجه الحدثان حاكما للعالم وليس للولايات المتحدة فقط، وبسبب ذلك بادر بوش الأب وأعلن قيام «النظام العالمي الجديد»، وهو النظام الذي تنفرد بلاده بقيادته، وينفرد هو كرئيس بالقيادة.

وجاء بعده الرئيس بيل كلينتون، الذي مارس فعليا قيادة «النظام العالمي الجديد»، بمزيج من الصرامة والليونة، بينما كان المجتمع الأميركي يغلي من الداخل، وتختمر في أحشائه توجهات لسياسة من نوع آخر.

وحين جاء الرئيس جورج بوش الابن، كان المجتمع الأميركي قد أفرز من داخله سياسة المحافظين الجدد، الذين مثلوا ذروة التطرف في قيادة أميركا للسياسة العالمية، ونالنا منها نحن العرب نصيب وافر، حمل اسم «الشرق الأوسط الجديد»، حيث كان المحافظون الجدد يريدون تغيير العالم العربي على طريقتهم، ونقله من حال إلى حال، تحت ستار نشر الديمقراطية، وشعار حقوق الإنسان، وشعار حرية المرأة، وكل ذلك من أجل فرض سيطرة أميركية على النفط العربي، تستعمل فورا لفرض السيطرة الأميركية على نطاق عالمي، بينما النفط العربي مضمون الوصول إلى أميركا وأوروبا، ولكن الولايات المتحدة تريد التدخل في توزيعه، ومن ثم استعماله لأغراض سياسية، وهو ما لا يناسب المصالح العربية. ولذلك أحدثت سياسة الرئيس بوش الابن توترات عربية - أميركية، برز جزء أساسي منها بسبب رفع درجة التأييد الأميركي لإسرائيل إلى حدود لم تعرف من قبل، تمثل أبرزها في سياسة تأييد الاستيطان الصهيوني في فلسطين.

في أعقاب هؤلاء الرؤساء الثلاثة، جاء أوباما إلى السلطة. رئيس شاب، أسود، مثقف، وأعلن بنفسه أنه سيوقف سياسة الحرب على العالم الإسلامي التي مورست أيام بوش الابن. وحاول أن يعطي موقفه هذا بعدا ثقافيا حضاريا وليس بعدا سياسيا فقط، مما أدى إلى استقبال قدومه بنوع من الارتياح في العالم العربي وفي العالم الإسلامي. ولكن هذا الارتياح لم يطل أمره، إذ ما لبث أوباما حتى ظهر أمام العالم بشخصية جديدة، وبسياسة جديدة، وبلغة جديدة.

تجاه إسرائيل بدأ يعلن تأييده لإسرائيل بطريقة تتفوق على كل الرؤساء الأميركيين الذين سبقوه. وفي خطابه الأخير قبل أيام في الأمم المتحدة، بادرت الصحافة الإسرائيلية نفسها لوصف خطاب أوباما بأنه «خطاب صهيوني»، وأن رئيس الوزراء نتنياهو خاطبه قائلا: سيادة الرئيس.. شكرا.

تجاه فلسطين، بدأ أوباما يعلن معارضته لأي مبادرة فلسطينية جديدة، مركزا على رفض المسعى الفلسطيني لاعتبار دولة فلسطين عضوا كامل العضوية في الأمم المتحدة. ولم يتورع الرئيس الأميركي عن الإعلان تكرارا أنه سيستعمل «الفيتو» ضد المسعى الفلسطيني إذا قدم الطلب إلى مجلس الأمن، وأبرز موقفه هذا على شكل حملة سياسية مؤيدة لإسرائيل ومعارضة للفلسطينيين.

لم يتميز الرئيس السابق بوش الابن بالثقافة أو بالبراعة في الخطاب أو في الحديث.. بينما تمتعت شخصية أوباما بامتلاك هذه الصفات بشكل بارز. ومع ذلك فإن تعاطيه مع الطلبات الفلسطينية جاء خلوا من براعة الخطاب، أو من لباقة الحديث. وجاء في المقابل تعاطيا يتعمد الصراحة الفظة، سواء كان ذلك في التصريحات والخطابات، أو حتى في الحديث الشخصي المتبادل مع الرئيس محمود عباس.

إن هذا التبدل في الشخصية لا يمكن تفسيره بالحجج التقليدية عن العلاقات الأميركية مع الحركة الصهيونية، لأنه يتجاهل بشكل كلي أي حديث عن المصالح العربية، التي لها داخل المصالح الأميركية دور بارز.

إن دعم أميركا لإسرائيل أمر معروف. ودعم أميركا للحركة الصهيونية أمر معروف. ولكن تحدي أوباما العلني للمصالح العربية، وتجاهلها بالكامل، هو الأمر الذي يستدعي البحث والمراقبة والتدقيق.. وربما المحاسبة أيضا، وهو موقف عربي لا بد أن يأتي.