الجهل في المرض أحسن

TT

كانت موضة الأطباء في ما سبق من زمن ألا يخبروا المريض بإصابته بأي مرض خطير كالسل أو السرطان أو القلاب، وكانوا يبتدعون شتى الأكاذيب لمخادعته وطمأنته. بيد أنهم في السنوات الأخيرة غيروا الموضة.. أخذوا يواجهون المريض بما عنده.. يقولون له عندك سرطان وستموت بعد ستة أشهر. وكذا الأمر مع المرضى.. يحاولون غالبا أن يعرفوا علتهم ويفهموا كل شيء عنها.. يسألون الطبيب ويقرأون عنها ويستمعون للرايح والجاي بشأنها. عرفت بعض المرضى في العراق كانوا يأتون بالقرآن الكريم ويطلبون من الطبيب أن يحلف عليه بأنه قال لهم الحقيقة وكل الحقيقة ولا شيء غير الحقيقة. ولكن الأطباء كثيرا ما فعلوا فعل ساستنا فيعطون لأنفسهم حق الكذب رغم القسم بالله العلي العظيم.

أنا لست من هذه الفئة، وكلما حاول الطبيب أن يشرح لي علتي قاطعته وأسكته وقلت له اكتب لي الدواء وخلصني.. اذكر ما علي أن أفعله وسأفعله، كالتمارين الرياضية مثلا أو تحاشي الكلسترولات والشحوم، فإذا كان للعلة دواء فأعطني الدواء، وإذا لم يكن لها دواء فما الفائدة من معرفتي بها؟ الكلام عن المرض يؤدي للانشغال به، والانشغال به يقود لتوسعه وانتشاره. لحسن حظي أن الأطباء الإنجليز يميلون لذلك.. قلما يدلون لك بتفاصيل مرضك. يقولون لك عندك ضغط أو سكر أو نبض عال، ولكنهم غالبا لا يذكرون لك الأرقام.

وإذا كان السلف قد قالوا: اسمع لمجرب ولا تسأل الحكيم، فإليكم شيئا من تجاربي في هذا الموضوع..

ظهرت على رجلي قبل نحو عشرين سنة بقعة حمراء ثم تحولت إلى لون جوزي. لم تسبب لي أي وجع أو إزعاج، فتركتها وشأنها. وبقيت هي على شأنها. بيد أن ولدي نائل لاحظها في ما بعد فسألني عنها، ثم نصحني باستشارة الطبيب في أمرها. قررت اتباع نصيحته، فحددت موعدا مع الطبيب. المفروض أن يستمع الابن لنصيحة أبيه، ولكننا في عصرنا هذا أصبحنا نسمع كلام أولادنا وزوجاتنا، وهذه حماقة أخرى من حماقاتي، مثل إيماني بالديمقراطية العراقية.. ما إن فعلت ذلك حتى ظهرت بقعة أخرى أكبر من الأولى. عرضتهما على الطبيب.. فحصهما وقال هذه نوع من الإكزيما.. كتب لي مرهما أدلكهما به. ما إن ذهبت للصيدلية حتى انتشرت هذه البقع الحمراء في كل بدني، وأصبحت أعاني منها كل هذه السنين.

أنا واثق لو أن نائل لم يلفت نظري إلى البقعة الأولى ويثير مخاوفي بشأنها، لما حصل أي من ذلك. ويا ليت الطبيب لم يقل لي إنها نوع من الإكزيما، لأن الإكزيما علة جلدية مزعجة يصعب التخلص منها. والآن أرجو أن لا أثير بدوري مخاوف من عنده بقعة حمراء أو صفراء أو خضراء في أي مكان من جسمه. وأسجل اعتذاري له مقدما.

وهكذا نجد أن الجهل بالمرض أجدى وأحسن؛ فنحن ندفع للأطباء أجورا عالية. دعهم يتحملون القلق بشأنك واتركه لهم، وعش في جهلك راضيا منعما.