الجهادية الألمانية!

TT

في الوقت الذي أعلن فيه مقتل الإرهابي أنور العولقي المولود في أميركا والمقتول في اليمن، كنت أحضر ندوة نظمتها إحدى مؤسسات البحث في ألمانيا، وكانت الندوة تعقد في شمال إيطاليا. هناك جرى الحديث عن الظاهرة، أي عن ظاهرة الإرهاب، وكيف أنها تتمكن من أشخاص بصرف النظر عن منشئهم، فاكتشفت أن أحد المشاركين الألمان الشباب لديه كتاب يطبع الآن في جامعة كولومبيا الأميركية عن الجهادية الألمانية، سألت: جهاد؟! وألمان؟! وجاءت الإجابة بـ«نعم» قاطعة.

الجهادية الألمانية هي مجموعة واسعة من الألمان الشباب إما المنحدرين من أصول تركية وأسرهم من العاملين في ألمانيا، وإما من المواطنين الألمان. أن يكون البعض من أصول تركية ويعانون من التهميش والفقر في مجتمع لم يعترف بهم، فربما ذلك يأخذهم إلى ردات فعل توصلهم إلى «الجهادية» كفكرة ناقمة على المجتمع، أما أن يكونوا ألمانا، فذلك هو الجديد.

قال محدثي مؤلف الكتاب تحت الطبع، إن 30 في المائة من هؤلاء، كما ظهر في بحثه هم أبناء ألمان أبا عن جد، وهم أيضا طبقة فقيرة ومهمشة، إلا أنهم «ألمان بيض ولهم شعر أصفر كشعري» كما قال، إن كثيرا منهم ممن ألقي القبض عليهم وكانوا موضوعا للدراسة، وجد في مكتبات منازلهم كتب لأبو محمد المقدسي، ومترجمة إلى الألمانية.

يعني هذا أن الشكوك التي تنتاب كثيرا من المسؤولين في المطارات والموانئ الأوروبية والدولية من أصحاب البشرة السمراء الذين يخضعون للتفتيش القاسي خوفا من كونهم إرهابيين، هي إشارة خطأ، قال محدثي نعم يمكن أن يكون الإرهابي اليوم أبيض ذا شعر أشقر يبتسم له المسؤول في المطار ويرحب به أيضا.

لفت نظري قول المتحدث إن الجهادية الألمانية الحديثة تتبع في فكرها أبو محمد المقدسي، وهو رجل اسمه محمد البرقاوي، عاش ودرس في الكويت، كمثيله محمد خالد الشيخ، بعد أن شتتت عائلته بالنكبة الفلسطينية، ثم حاول أن يتتلمذ في أحد المعاهد الدينية في الحجاز، بعد إجازة في العلوم من جامعة الموصل ففشل، ثم ذهب كغيره إلى أفغانستان في محاولة للبحث عن أفق سياسي، واختلط هناك بمن جاء إلى تلك البلاد من أركان العالم مع شتات أفكارهم.

اكتشف كغيره أن الكلام في الدين ممكن وليس عليه حرج ولا يحتاج إلى تأهيل غير قراءة بعض الكتب والاستعارة منها بشكل مجزأ، وأنه يمكن أن يكون «شيخ دين» من منازلهم، فأخذ يكتب الرسائل الدينية على طريقة الغابرين من المؤلفين، أي على السجع الرتيب، مثل: «الجواب المفيد في المشاركة في البرلمانات والانتخابات مناقضة للتوحيد». باختصار تقول هذه الرسالة إن المشاركة في الانتخابات ترشيحا أو تصويتا تخرج فاعلها من الدين، كما يرى شيخ نصب نفسه للإفتاء، أو كتاب «القول النفيس في التحذير من خديعة إبليس»، أو كتاب «كشف شبهات المجادلين عن عناصر الشرك وأنصار القوانين»، أو «حسن الرفاقة في الإجابة عن سؤالات سواقة»، أو «الثبات الثبات في زمن التراجعات»، وهكذا! وله مثل هذه الكتب بمثل هذه العناوين أكثر، إلى درجة تكفير بعض الدول المسلمة. إطلاق اسم كتب عليها تجاوزا، فهي لا تعدو أن تكون رسائل محملة بالأفكار المسبقة والمؤدلجة ضيقة الأفق. إلا أن الواضح فيها للعاقل أنها خارجة عن العصر، فلا الانتخابات مقنعة للسيد البرقاوي، ولا القوانين الناتجة من توافق الناس وواجبة الطاعة، هو عالم بحد ذاته، مثل أقرانه الكثر الذين يقولون عن الحق ما لا يفقهون. إلا أن تكون هذه الأفكار محط إعجاب وتأييد لثلة من الألمان، الأرض التي أخرجت كبار المفكرين المحدثين، وليس المهاجرين فقط، هو ما يلفت النظر ويستحق الإشارة. فالإرهاب حالة ذهنية تخلقها ظروف مادية ونفسية، ليس بالضرورة مقصورة على مكان معين أو جنس معين. كما أن الاستخدام المتعصب للدين يخلق حالة من الوهم المستعصي على العلاج، حيث يقتنع هذا الموهوم بأنه متفوق أخلاقيا على الآخرين، ويفهم الدنيا أفضل منهم. ولذا فعليهم أن يتبعوه أو يكونوا خارج الملة، وأن تترجم هذه الكتب إلى الألمانية ويقرأها قادم حديث إلى الإسلام، يظنها أنها الإسلام، وهو كما يعلم العقلاء بريء منها كل البراء.

آخر الكلام:

الديكتاتوريات أشكال وألوان، آخر صيحة هي التبادل المستمر بين رئاسة الجمهورية ورئاسة مجلس الوزراء في الجمهوريات الروسية بين شخصين لا غير، بين بوتين وميدفيديف، إنها استهزاء غير مسبوق بعقول الناس في القرن الحادي والعشرين، ولكنها من جانب آخر تفسر لماذا تقف روسيا مع الديكتاتوريات الأخرى المتبقية في العالم، فشبيه الشيء منجذب إليه.