من يحكم ليبيا بعد حكم الديكتاتورية القذافية

TT

على ثرى ليبيا ضحى الليبيون دفاعا عن حريتها، يوم أن زحف الغزاة بجيشهم، متوهمين أنها ستكون لقمة سائغة لهم يعبثون بها كما يشاءون، لكن إرادة الله جاءت عكس مشيئتهم، فانتصرت إرادتهم ورجع الغزاة خاسئين.. على الرغم من وجود الخونة بين صفوفهم يعيقون رحلة الانتصار ويشلون حركة المناضلين وهم يكتسحون معاقل العدو ببسالة وتحد، دفاعا عن الأرض والعرض.

وها هم أسودها اليوم في ميادين المعارك يصولون ويجولون مدافعين عن تلك المطالب التي خرجوا من أجلها في السابع عشر من فبراير (شباط)، إلا أنهم يواجهون اليوم نوعين من البشر؛ ورثة شرعيين لخونة الأمس، الذين كانوا لا يريدون لليبيا أن تتطهر من الأدران، شأنهم شأن «الباندات» التي عرفها تاريخ المواجهة مع الإيطاليين، وآخرين يتصارعون كالنعاج في حظائرها يريدون أن يقفزوا على كراسي الوزارات وجراح الأسود ما زالت تنزف دما طاهرا نقيا، ناهيك عن الشهداء الأبرار الذين سقطوا في ميادين الفخر لترتفع أرواحهم إلى الملأ الأعلى ويرتفع معها نجم ليبيا الحرة إلى عنان السماء.

إن نار الثورة تستعر، ومعركة التحرير متواصلة في كثير من الجبهات، والجرحى يئنون من جراحهم، والأسود لا تزال تزأر ليكتمل عرس الانتصار، والنعاج تتصارع على المناصب غير عابئة بما يحدث في ميادين الشرف، هذا يتوهم أنه الأجدر برئاسة الوزراء لأن أجداده كانوا زعماء البلاد، متوهما أن الزعامة إرث في عائلته، ناسيا أن الزعامة لا تورث، لكنها إرث يقدر، وليس بالضرورة أن يكون الأحفاد جديرين دون غيرهم باعتلاء المناصب، وهذا يعتقد أن قبيلته كانت تسود البلاد، وبالتالي لا يجب أن يغيب اليوم عن الاشتراك في قيادة المرحلة، وآخر يرى أنه بإنفاق جزء من ماله - الذي لا يعلم غير الله كيف جمعه - لصالح الثورة، أصبح له حق شرعي في تولي وزارة من الوزارات، وهناك من يعتقد أن انشقاقه على النظام كفيل بأن يمكّنه من أخذ حصته في حقائب الحكومة الجديدة، وقد غاب عنه أن أي انشقاق بعد تدخل قوات الحماية الدولية لا معنى له، وهناك من كان يراقب من بعيد ما يحدث على الأرض دون أن يكون له موقف واضح بانتظار من ينتصر في النهاية، ليطالب بنصيبه في كراسي العهد الجديد إذا رجحت كفة الثوار.

وإن كنا لا نقلل من قيمة المناضلين ولا من دورهم النضالي على مدى تاريخ البلاد الطويل في كفاح المستعمر، ولا نبخس حق الشرفاء من القبائل الليبية العريقة التي كان لبعض أفرادها دور في تقلد بعض المناصب القيادية ممن عرفوا بالنزاهة والإخلاص، ولا نقلل من عطاء بعض الأثرياء ممن أنفقوا أموالهم ابتغاء وجه الله، كما لا نقلل من شأن مساهمة بعض الذين تخلوا عن نظام الطاغية، مما أضعف شوكته تجاه الثوار، ولا نحقر من طموح بعض الناس في رغبتهم لخدمة البلاد - والله أعلم بالنوايا - من خلال حرصهم على تولي بعض المناصب، فإن كل هذا لا يعطيهم حق التصارع الآن على الكراسي والأسود ما زالت تخوض حرب تحرير البلاد من بقايا الطاغية وأزلامه.

إن الليبيين ليسوا سذجا يمكن أن يقبلوا أحدا من هؤلاء النعاج، التي تتصارع اليوم على الكراسي لتدير أمر البلاد، والنار ما زالت مشتعلة في كثير من الجبهات، من أجل إكمال مرحلة التحرير، هؤلاء النعاج التي لا ضمير لها ولا إحساس لديها، من هو العاقل الذي يقبل بها، حتى مستقبلا، أن تسهم في إدارة البلاد وهي تتاجر اليوم بدماء الشهداء وتجتمع في أوكار المؤامرات ومرابع الولائم لتخطط كيف تحصل على هذه الحقيبة أو تلك؟ وتسوق لكبيرها كيف يمكن أن يتربع على رئاسة الوزراء وبعض المدن الليبية لا تزال حتى اليوم ترفع خرقة القذافي الملطخة بدماء البشر.

كان الأجدى بهم أن يحرضوا على الخروج في مسيرات مؤيدة للثوار الذين يقاتلون ويقتلون كل يوم في مختلف الجبهات من أجل إنهاء بقايا القذافي وعائلته المستبدة، ليشحذوا هممهم، ويشعروهم بحجم ما يصنعون من أجل ليبيا وأجلهم.

وكان من الأجدى أن يجتمعوا ليضعوا خططا عملية للاهتمام بأسر الشهداء الذين ضحوا بأرواحهم من أجل ليبيا وأجلهم، خططا تكفل لأهلهم حياة كريمة تعينهم على مواجهة الحياة بعد أن فقدوا أبناءهم مقابل أن تعيشوا أحرارا فوق أرضكم وتتمتعوا بخيراتها التي حرمكم القذافي من التمتع بها طيلة أربعة عقود من حكمه الجائر.

وكان الأجدى بهم أن يجتمعوا ليضعوا تصوراتهم لرعاية الأيتام الذين فقدوا آباءهم في ميادين الشرف، حتى يسهموا في تعويضهم عن مصابهم الجلل، ويشعروهم بحجم تضحيات آبائهم من أجل ليبيا التي ستكون هي راعيهم لينعموا ويهنأوا بحياتهم.

وكان الأجدى أن يكون كل وقتهم الذي يضيعونه في التفكير في الحقائب الوزارية منصبا على معالجة الجرحى الذين يئنون من جراحهم في أرقى المستشفيات العالمية، وتمكين الذين بترت أطرافهم من تعويض ما يمكن تعويضه منها حتى يشعروا بقيمة الجهد الذي بذلوه من أجل أن ترتفع راية الحرية عاليا في سماء هذا الوطن العزيز.

وكان الأجدى بهم أن يضعوا مشاريع عملية لإعادة إعمار البلاد التي دمرها القذافي خلال أربعين عاما من حكمه، وما دمرته آلته الحربية أثناء حرب التحرير، حتى إذا ما اكتمل تحرير البلاد أمكن للدولة الجديدة تنفيذه لكسب الوقت الذي يبدو أنهم غير قادرين على كسبه إلا لصالحهم، حتى يتربعوا على المناصب.

إن الأولية التي ينبغي أن تعطى في هذه المرحلة ليست للحكومة؛ من يرأسها ومن يقفز على أكثر حقائبها، لكن لمنطق العقل الذي يقول إن ليبيا ليست مغنما نتصارع عليها، لكنها حرية يجب أن نحافظ على صونها من العابثين والطامعين.

فأين عقولكم أيتها النعاج من هذا الواقع؟ والليبيون ليسوا كما كان القذافي يتصورهم؛ سذجا وأغبياء، الليبيون حين ثاروا على القذافي وأرغموا جبروته على الانحناء ذليلا صاغرا أمام عظمتهم لم يغضبوا من أجل كراسي يتربعون عليها ويتصارعون من أجلها، كما تفعلون أنتم اليوم، بل ثاروا من أجل كرامتهم التي تريدون بعبثكم هذا أن تمتهنوها معتقدين أنهم سينساقون وراءكم ويخرجون لتأييدكم، فلا تتمادوا كثيرا بأحلامكم، الليبيون سيخرجون، لكن ضدكم ليقولوا لكم بصوت واحد: ليبيا لنا جميعا ونحن من يوظف من نشاء لخدمتنا، ولكن بعد أن نحرر البلاد وترتاح الأسود من صولاتها في ميادين البطولة.

لذلك ينبغي أن نقف جميعا مع أولئك الرجال الذين وقفوا جنبا إلى جنب مع الثوار منذ أن اندلعت ثورة السابع عشر من فبراير في المجالس المحلية وفي المكتب التنفيذي وفي المجلس الوطني الانتقالي، متحملين المسؤولية في أكثر ظروف البلاد تعقيدا، لترسو سفينتنا على الشاطئ الآمن على الرغم من أي مأخذ قد يراه البعض، خاصة على المكتب التنفيذي الذي استطاع بدعم الثوار على الأرض أن يبذل جهدا مشكورا في كسب التأييد العالمي لمطالب شعبنا العظيم، الذي تأتي فضيلة الوفاء في طليعة قيمه الأخلاقية.

* كاتب ليبي