دول «الربيع العربي».. جدل الديني والمدني

TT

في شتاء 1992، عقدت الهيئة العامة للكتاب بمصر مناظرة - شهيرة - بعنوان «مصر بين الدولة الدينية والدولة المدنية»، وقد شارك فيها أعلام من شيوخ الحركية الإسلامية أمثال محمد الغزالي ومحمد المأمون الهضيبي، ونقاد للظاهرة الإسلامية مثل محمد أحمد خلف الله وفرج فودة. كانت حرب الخليج الثانية (1990 - 1991) قد انتهت للتو، والمشاعر الشعبية ملتهبة بعد أن قاد الإسلاميون مظاهرات صاخبة ضد التدخل الأميركي في الحرب.

حين ذاع نبأ المناظرة احتشد الآلاف لحضورها، ورغم محاولات الراحل الدكتور سمير سرحان، الذي أدار المناظرة، ضبط الحوار فقد ضاع صوته وسط التكبيرات المؤيدة للمشايخ ضد نظرائهم العلمانيين.

أبرز ما لفت انتباهي في المناظرة كان كلام الهضيبي الذي قال فيه إن «(الإخوان) ضد الدولة الدينية إطلاقا.. نحن نقول بدولة مدنية». استنكر فرج فودة تصريح الهضيبي، ولكن عاد الأخير ليستدرك بأن الدولة المدنية التي يقصدها يجب أن تكون ملتزمة بأحكام «الشريعة الإسلامية» (النص الكامل للمناظرة الكبرى: خالد محسن، 1992).

إن قراءة سريعة لتلك المناظرة تشعرك بأن الجدل ما بين الديني والمدني لدى الإسلام السياسي في المنطقة العربية ما زال يراوح مكانه. أمام ظاهرة الانتفاضات الشعبية التي اجتاحت عددا من العواصم العربية، كيف يمكن قراءة مواقف الإسلام السياسي؟ هناك ثلاثة آراء في ما يخص المرحلة يمكن إجمالها في الآتي: الأول، أن الانتفاضات الشعبية وإن خرجت في أيام الجمع ورددت الأدعية الدينية، وأدت الصلاة متراصة بالميادين، فإنه لا علاقة لها بحركات الإسلام السياسي، بل هو حراك شعبي «شاب» يضم كافة التيارات والمشارب الفكرية، ويرفع أصحابها أصواتهم مطالبين بـ«حرية التعبير»، و«الديمقراطية»، وتطبيق «حقوق الإنسان».. وعليه؛ فإننا أمام ثورات غير مؤدلجة مطلبها الرئيسي تغيير النظام لا تطبيق الشريعة.

أصحاب الرأي الثاني، وهم بعض الإسلاميين المخضرمين، يرون أن الانتفاضات العربية ما كانت لتنجح لولا دخول الإسلاميين فيها - سواء «الإخوان» أو السلفيين - وأن هذا التدخل قد وفر زخما شعبيا للانتفاضة في الشارع، بل ويذهب البعض إلى أنه لعب دورا أساسيا في صمود الانتفاضات، فلولا نزول «الإخوان» في التحرير لما تمكن شباب 6 أبريل (نيسان) من الوقوف وحدهم مساء 25 يناير (كانون الثاني)، وأنه لولا حمل أتباع الجماعة الليبية المقاتلة - السابقين - للسلاح ضد القذافي في بنغازي عشية 17 فبراير (شباط) لكانت قوات طرابلس قد قضت على الانتفاضة، حتى في اليمن كان لشباب حزب الإصلاح (الإخواني) الدور الأساسي في ترتيب وتنسيق المظاهرات في ساحة التغيير.

بيد أن هناك رأيا ثالثا يجادل بأن حركات وجماعات الإسلام السياسي قد تعرضت نفسها لذات الزلزال الذي تعرضت له الأنظمة السياسية الحاكمة في المنطقة، وأننا بصدد بروز خطاب إسلامي - سياسي جديد (أو ما بعد إسلاموي) يركز على العمل والنشاط السياسي المصلحي أكثر من الالتزام الآيديولوجي، أي أنه يرى أن الوسيلة الأفضل لنجاح الحركية الإسلامية يتمثل في النجاح في تقديم عمل سياسي واجتماعي نافع للمواطنين أكثر من فرض الشريعة أو الحلول الإسلامية (الآيديولوجية) بالقوة على الناس.

في هذا السياق نشرت الـ«نيويورك تايمز» تقريرا بعنوان «الناشطون في العالم العربي يتنافسون لتعريف دولة الإسلام» (29 سبتمبر/ أيلول)، حيث يشير الصحافيان أنتوني شديد وديفيد كيرباتريك إلى أن هناك جدلا واسعا بين أوساط شباب الإسلاميين حول ضرورة تجديد الخطاب الاجتماعي وطريقة ممارسة الإسلاميين للسياسية لكي تكون مبنية على أسس «المدنية» و«الديمقراطية» مستشهدين بتجربة حزب العدالة والتنمية في تركيا، وقد تضمن التقرير استشهادات متفرقة يؤكد أصحابها أن هناك تحولا قادما، أو صيرورة ضرورية، نحو ابتعاد الإسلاميين الشباب عن التفكير التقليدي لقياداتهم، واستشراف نموذج تصالحي (أقل حدة آيديولوجيا) يركز على الجوانب الاقتصادية والاجتماعية، ويمارس السياسة وفق الشروط والقواعد الديمقراطية معتمدا على كفاءته لا رطانته «الدعوية».

هل نحن أمام إسلام سياسي جديد (ما بعد إسلاموي)، أم مرحلة «ربيع عربي» غير آيديولوجية؟ بداية، حكاية الـ«ما بعد إسلاموي» ليست نقاشا جديدا، فقد سبق لباحثين، أبرزهم أوليفيه روا (1990) وآصف بيات (1996)، أن كتبوا عن ظاهرة الانشقاقات الشبابية في جسد الأحزاب والجماعات الإسلامية التقليدية، ونشوء خطاب إسلامي (حداثوي) يرنو إلى تبيئة مفاهيم حداثية كالدولة المدنية والديمقراطية وحقوق الإنسان وغيرها. حزب «الرفاه» التركي في التسعينات، أو «الوسط» في مصر، أو «النهضة» في تونس.. كانت أمثلة على هذه الظاهرة - أي الـ«ما بعد إسلاموية» - ولكننا وبعد مرور عقدين على انخراط تلك الأحزاب والشخصيات في العمل السياسي البرلماني لم نشهد تطورا حقيقيا في الأدبيات الإسلامية الشائعة أو الممارسة العملية للسياسة والتشريع لدى التيار الإسلامي، حتى الاستثناء التركي المتمثل في حزب العدالة والتنمية الذي أعلن صراحة عن قبوله بعلمانية الدولة لم يبد مختلفا عن الأحزاب الإسلامية التقليدية إلا على السطح، فالنظام الدستوري، والجيش، والتراث العلماني/ السياسي في تركيا.. كانت مجتمعة هي الضمانة حتى الآن في عدم إخلال الإسلاميين بمعادلة «العلمنة» والحكم في تركيا.

إذا أردت دليلا على أن الإسلاميين التقليديين لم يتغيروا كثيرا - رغم توسعهم في فتاوى الأحوال الشخصية والمعاملات - فتأمل الحساسية الشديدة التي لديهم من موضوع علمانية الدولة، فعندما وجه أردوغان نصيحته للإخوان المسلمين في مصر خرج الإسلاميون ليقولوا إن ذلك يعتبر تدخلا في الشأن المصري. في مصر قال أردوغان: «الدول العلمانية لا تعني اللادينية وإنما تعني احترام كل الأديان وإعطاء كل فرد الحرية في ممارسة دينه»، وفي تونس أعاد التأكيد على ذلك: «في ما يتعلق بموضوع العلمانية؛ إنها ليست علمانية على الطريقة الأنجلو ساكسونية أو الغربية. الشخص ليس علمانيا.. الدولة هي العلمانية».

لا شك أن هناك استثناء في ما يتعلق بالتجربة التركية، فإسلاميو تركيا (الـ«ما بعد إسلامويين») لا يعبرون - حتى الآن على الأقل - عن التيار العريض للحركية الإسلامية، والدليل على ذلك تصريحات الإسلاميين أنفسهم المستهجنة - أو المهمشة - للنصيحة التركية، ويكفي أن نقرأ تصريح راشد الغنوشي، زعيم حزب النهضة التونسي، الذي يمكن اعتباره أكثر الأحزاب الإسلامية تقدمية - بالقياس مع نظرائه المشرقيين - حيث رد على تصريحات أردوغان قائلا: «هو يعبر عن خصوصيات تركية، إذ حاول (أردوغان) أن يوفق بين تأكيده أنه إسلامي وإدارته لدولة علمانية، ولا أعتقد أن المواطن التونسي أو المصري يجد نفسه معنيا بهذا التوفيق لأن دولته - مصر أو تونس - تعرف نفسها بأنها دولة إسلامية» (مجلة المجلة: 3 أكتوبر/ تشرين الأول).

لسنا نريد هنا التقليل من وجود خطاب «ما بعد إسلاموي» في المجتمعات العربية والإسلامية، ولكن من الضروري أن ندرك أن تلك الظاهرة ليست جديدة، وهي كانت موجودة، بل ونخبوية، ضمن التيار الإسلامي الأغلب والأعم. كتابات طارق رمضان، وراشد الغنوشي، وفتاوى شخصيات مثل حسن الترابي، ربما تجاوزت سقف الأدبيات الإسلامية التقليدية، ولكنها لم تستبدل الخطاب الإسلاموي التقليدي. أيضا، الخطاب الإسلامي شهد بروز كتابات تبشر بـ«اليسار الإسلامي» في السبعينات، و«الإسلامي - القومي» في الثمانينات، و«الإسلامي الديمقراطي» في التسعينات، وحتى «الإسلامية الجهادية» في عصر «الحرب على الإرهاب»، ولكن رغم ذلك ظل التيار الأعم من الإسلاميين ملتصقا بالأدبيات الإسلامية التقليدية كتلك التي امتلأت بها كتب الإخوان المسلمين. فهل نشهد تغييرا جديدا مع الانتفاضات العربية؟ غني عن القول أن مرحلة الانتفاضات الشعبية لا تزال قائمة، وأن تلك البلدان التي ضربتها حمى «الثورة» لم تستفق بعد من اللااستقرار الذي يلفها، وقد يستغرق الأمر أعواما حتى يتمكن الباحثون من اختبار الكيفية التي أثرت بها الاحتجاجات العربية على تفكير الجماعات الإسلامية، وسلوكها السياسي مستقبلا.