حول الانتفاضات العربية والدولة المدنية

TT

هل حقا أن الدولة المدنية الحديثة ضد الدين؟ هذا السؤال مطروح بقوة على خلفية الثورات العربية الراهنة. ونلاحظ أنهم يستخدمون كلمة الدولة المدنية تحاشيا لمصطلح الدولة العلمانية على الرغم من أن المعنى واحد في نهاية المطاف. وبالتالي فلا داعي لكل هذا الخوف من كلمة علمانية وإن كنت لست ضد حلول كلمة مدنية محلها إذا كانت تطمئن الإسلاميين المستنيرين وتزيل هلعهم. قلت الإسلاميين المستنيرين العقلاء وليس الظلاميين الطائفيين الذين يلعبون بالنار الآن ويوشكون على إنجاح المخطط التقسيمي لدول المشرق العربي.

الدولة العلمانية المدنية الحديثة على عكس الدولة الثيوقراطية القديمة تعترف بكل الأديان والمذاهب وتحترمها وتعاملها على قدم المساواة. وهذا مطابق للمقصد القرآني الأسمى: «ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة»، ولكنه لم يشأ. وبالتالي فالتعددية الدينية أو المذهبية شيء شرعي ولا غبار عليه. ولكن الفهم الخاطئ للإسلام والموروث عن عصر الانحطاط هو الذي يتعارض مع العلمانية والحداثة والدولة المدنية والنزعة الإنسانية. وهو الذي يحارب التعددية الدينية ويعتبرها كفرا. وهو الذي يثير المشكلات الطائفية حاليا ويهدد بتقسيم المقسم كما يقال. وللأسف فإن هذا الفهم الظلامي للدين هو المنتشر على صفحات الإنترنت وشاشات الفضائيات وليس الإسلام المستنير.

ينبغي العلم بأن العلمانية هي عبارة عن صيرورة تاريخية طويلة لعبت فيها الحداثة الغربية دورا حاسما. فلا علمانية من دون حداثة. العلمانية هي ثمرة الحداثة الفلسفية التنويرية، وكذلك ثمرة الحداثة العلمية والاقتصادية والاجتماعية والعمرانية والأدبية والفنية. ومن الواضح أن هذه الحداثة لم تنتصر حتى الآن في العالم العربي. بل إن المنتصر السائد هو التيار السلفي الإخواني.

للعلم فإن الدولة المدنية العلمانية لن تكون معادية للدين الإسلامي أبدا على عكس ما يخشى الكثيرون. فالعلمانية الإسلامية أو العربية سوف تجمع بين الدين والدنيا وتصالح بين الإيمان والعقل. وهي التي ستنقذ العرب من شرور الحروب الأهلية والطائفية التي تتهددهم حاليا. ولكنها ستكون مضادة للفهم الظلامي المتعصب للدين. فالفهم العقلاني للدين يؤدي إلى العلمانية. والتراث العربي الإسلامي يحتوي على بذور العلمانية والعقلانية والنزعة الإنسانية إبان العصر الذهبي المجيد. وقد سبقنا الغرب إليها وعنا أخذها. وبالتالي فهذي بضاعتنا ردت إلينا.

من الواضح أن المجتمع يحتوي أحيانا بل غالبا على عدة أديان أو مذاهب. فكيف يمكن أن يتعايش أفراده بوئام وسلام فيما بينهم دون أن يعتدي أحد على آخر أو دون أن يحتقره ويعيّره بسبب الاختلاف في العقيدة الدينية؟ كيف يمكن قبول الاختلاف في أعز ما يجله الإنسان ويقدسه: أي الدين؟ كيف يمكن ألا أكفّرك إذا كنت لا تنتمي إلى ديني أو مذهبي؟ كيف يمكن أن أحبك أو أحترمك أو أثق بك؟ لا بد من وجود أرضية مشتركة يلتقون عليها جميعا. وهذه الأرضية المشتركة هي التي تؤمنها لنا الثقافة العلمانية الحديثة بالإضافة إلى الثقافة الدينية المستنيرة. وللأسف فإن الثقافة الدينية السائدة الآن في العالم العربي مخترقة من قبل الأفكار الطائفية والمذهبية إلى حد مقلق. انظر ما حصل مؤخرا في مصر بين الأقباط والجيش المدعوم في موقفه من قبل الإخوان والسلفيين. ولذلك قلت أكثر من مرة بأن وجه الخطر على الانتفاضات العربية هو عدم انتشار الاستنارة الفكرية بالشكل الكافي في أوساط الجماهير وذلك على عكس الثورة الإنجليزية أو الأميركية أو الفرنسية. هناك الثورة الفكرية سبقت الثورة السياسية، وعندنا الثورة السياسية قبل الفكرية: أي العربة قبل الحصان! من هنا وجه الخوف والخطر. انظر أيضا هجوم السلفيين في تونس على محطة «نسمة» التلفزيونية، أو هجومهم على جامعة سوسة بسبب متنقبة، الخ..

الدولة المدنية العلمانية تضمن لجميع المواطنين المساواة في الحقوق والواجبات بغض النظر عن اختلافاتهم الدينية أو المذهبية. وهذه المبادئ لا تتوافق إطلاقا مع الدولة اللاهوتية أو الثيوقراطية القديمة التي تكفر قسما من أبناء المجتمع وتضطهدهم وتعاملهم كمواطنين درجة ثانية أو حتى ثالثة. بما أن غاية الدولة هي تأمين المصلحة العامة للجميع والسهر عليها فانه ينبغي أن تكون دولة لا طائفية: أي تعامل الجميع على قدم المساواة أيا تكن أديانهم ومذاهبهم. فالمواطنية لا تتجزأ: إما أن تكون مواطنا بالكامل، وإما نصف مواطن أو ربع مواطن.

هذا من جهة. أما من جهة أخرى فلا ينبغي الخلط بين النظام العلماني والنظام الإلحادي الذي أسسه جوزيف ستالين وفرضه بالقوة على شعوب الاتحاد السوفياتي. هذا خطأ جسيم كثيرا ما نقع فيه في العالم العربي بغية تشويه صورة العلمانية أو الدولة المدنية الحديثة في أنظار الناس. ينبغي العلم بأن النظام العلماني يؤمّن حرية الاعتقاد وممارسة الطقوس والشعائر لجميع المواطنين دون استثناء. ولكنه لا يجبر أحدا عليها! وهذا هو معنى الحرية الدينية التي نصت عليها كل إعلانات حقوق الإنسان والمواطن. كما ونص عليها القرآن الكريم: «لا إكراه في الدين». وبالتالي فالعلمانية هي الإطار العام الحامي لحقوق الإنسان: أي حقه في أن يتدين أو لا يتدين، أن يذهب إلى الكنيسة يوم الأحد أو لا يذهب على الإطلاق. فعلى الرغم من عدم تدينه (ولا أقول عدم إيمانه) فإنه يظل مواطنا. وإلا لكانت الدول المتقدمة قد خسرت كفاءاتها العلمية والسياسية والفكرية. فمعظمهم لا يذهبون إلى الكنيسة.

وبالتالي رجاء فرقوا بين مجال العبادات ومجال المعاملات كما كان يفعل الفقه الإسلامي الكلاسيكي. هذا التفريق العبقري هو الذي سيقودنا يوما ما إلى تحقيق النظام المدني العلماني في العالم العربي ذي الخلفية الروحانية الإسلامية الجميلة والمحببة. وعندئذ تنحل مشكلة الطائفية من أساسها. ولكن العلمانية لن تترسخ ولن تنتصر قبل أن ينجح التنوير العربي الإسلامي وكذلك التنوير العربي المسيحي وتنتشر الثقافة العلمية والفلسفية في كل أنحاء المجتمع وتنتصر على الثقافة اللاهوتية القديمة والفهم الظلامي الطائفي للدين. وهذه قصة طويلة سوف تستغرق عدة أجيال. وبالتالي فالدولة المدنية الحديثة ليست غدا، وإنما بعد غد..