حلب.. الثورة.. البركان

TT

هناك يقين كبير لدى كل متابع للثورة السورية أنه حالما قامت مدينة حلب وشاركت بكل زخمها وثقلها سيكون ذلك بمثابة إسدال الستار ونهاية معلنة للنظام السوري، وذلك لما تشكله حلب من ثقل سياسي واجتماعي مهم بالنسبة لسوريا.

ولكن ما هو «سر» تأخر حلب وترددها في الانضمام للثورة السورية؟ من المهم التعرف على إجابة هذا السؤال، ولكن من بابي علم النفس وعلم الاجتماع والتاريخ وذلك قبل علم السياسة والاقتصاد.

إبان دراستي الجامعية في الولايات المتحدة الأميركية كنت في ورشة لإصلاح سيارتي وأحمل معي صحيفة عربية، ولفت هذا المشهد رجلا غربي الملامح، كبيرا في العمر، وقور المظهر، يرتدي فوق رأسه «البيريه» الفرنسية، وسألني «أنت عربي؟» أجبته: نعم وأنت؟ فأجاب بافتخار شديد: «نعم أنا حلبي»، فتذكرت باستغراب قوله: أنا حلبي، ولم يقل أنا عربي أو أنا سوري كما هو متوقع، ولكنه أجاب بالهوية الأهم بالنسبة إليه على ما يبدو، ولكن هذا الأمر له «إسقاطات» كثيرة على التاريخ والشخصية الحلبية.

فحلب كانت لفترة من الفترات إبان الحكم العثماني تتمتع «بالاستقلال»، وكانت تسمى إمارة حلب بشكل رسمي، وبعد الاستقلال وإعلان الجمهورية العربية السورية كان للخليط الاجتماعي «الفريد» من نوعه الموجود في حلب، الأثر على القرار السياسي العام في سوريا، فاليهود والمسيحيون والأكراد والأرمن، وطبعا المسلمون كانوا متداخلين ومنصهرين ومتساوين بالمزايا السياسية والاقتصادية، مما كان لا بد أن ينعكس على الخارطة السورية بشكل عام، وهو الذي أرسى بشكل جلي أن تنطلق من حلب أفكار سياسية رائدة في هيئة أحزاب أو أفراد، مثل حزب الشعب ورشدي كيخيا وسعد الله الجابري، وكذلك إفراز رئيس جمهورية فذ مثل ناظم القدسي، وجهبذ دستوري مثل عبد السلام الترمانيني، والسياسي المحنك محمد معروف الدواليبي، مع عدم إغفال رواد الصناعات والتجارة مثل أسر الزعيم وبرمدا وميسر والمدرس وكيالي وإنطاكي وغيرهم، ولا إغفال زعامات قديمة حسبت على المدينة من عينة عبد الرحمن الكواكبي وإبراهيم هنانو.

ولكن حلب على الرغم من كل هذا التاريخ والزخم عوقبت وبشدة وقساوة في عهد «البعث»، وتحديدا في حقبة حافظ الأسد الذي قاطع المدينة تماما وحرمها من التنمية كليا، وكانت العقوبة الأشد بسبب حوادث العنف التي حصلت فيها بالكلية العسكرية ضد بعض ضباط الطائفة العلوية في بداية حراك الإخوان المسلمين ضد النظام، فكانت حلب أول من دفع الفاتورة من غضب النظام وانتقامه الشرس، وكان النظام في انتقامه باغتا وخبيثا، فهو ساهم في «تهجير» اليهود بأكملهم، و«تخويف» المسيحيين، و«تحريك» الأكراد، كل ذلك ضد الطبقة البرجوازية المهمة التقليدية في حلب، فأضعف من استثماراتهم، وساهم في خروج رؤوس الأموال إلى خارج البلاد مضعفا المدينة أكثر.

وجاء بشار وحاول عقد حالة صلح مع حلب، فأدخل عناصر جديدة في المجتمع الحلبي من رؤوس الأموال «الغريبة» من أهل العشائر، وهم كما يعلم أهل حلب كانوا أداة في أيدي النظام «لمآرب أخرى»، وكذلك ساعد الانفتاح على تركيا بأن تكون حلب أكبر المستفيدين من هذا الانفتاح، وكذلك تمكن مفتي سوريا، وهو مفتي حلب السابق، من تحييد كل الشيوخ والمساجد من أي حراك ضد الدولة ومشاركة رجال الأعمال التامة في تأييد النظام، وهذه التوأمة الجماعية التي استثمرها نظام الأسد الابن؛ لعلمه أن حلب وثقلها السكاني والاقتصادي هي «أمل بقاء النظام»، ولكن حلب تحركت وخرجت عن السيطرة لأنها أخيرا هي جزء من المجتمع السوري، وأهلها مصاهرون لحمص وحماه ودرعا والرستن ودير الزور وسائر المدن السورية المنكوبة بنيران النظام.

حلب عرفت يوما بهويتها في مجالات محصورة، مثل القدود والفستق والكباب والحجر، ولكن أهلها اليوم ينتفضون ليشاركوا كل السوريين في تحرير بلادهم من الظلم؛ لأن حلب الشهباء (المسماة على بقرة النبي إبراهيم التي حلبها هناك) عرفت بالنخوة والرجولة عبر التاريخ، وعلى أهلها اليوم إثبات أن صمتهم كان بركانا يستعد للانفجار.

[email protected]