عسكر مصر أسرى الشعارات الدينية

TT

مصر على أهبة قيام الجمهورية الرابعة. لم تتشكل، بعد، الملامح السياسية للجمهورية الجديدة، بالوضوح الذي طبع حياة الجمهوريات الثلاث السابقة الناصرية. الساداتية. المباركية.

القلق المصري والعربي السائد، في مرحلة الانتقال، يستدعي محاولة تشكيل صورة سياسية لمستقبل مصر، في ضوء ظروف وأحداث الانتفاضة التي قوضت الجمهورية المصرية الثالثة.

قراءة المستقبل السياسي نوع من المغامرة شبيهة بالمرصد الجوي، في منطقة تنوء بتقلبات عواصف غير متوقعة. مع ذلك، لا بد من المبادرة إلى الرصد المبكر. مع كل احتمالات الخطأ. لأن المستقبل السياسي للعرب يرتبط، إلى حد كبير، بشكل وتوجهات أي نظام مصري جديد. فمستقبل مصر هو مستقبل العرب. وسياسة مصر تؤثر إيجابا وسلبا على سياسات العرب ومصالحهم القومية، كأمة كبيرة موزعة دولا، على رقعة تحتل مفارق القارات وأهم البحار والمحيطات.

هذا التأثير الإيجابي والسلبي على العرب، بدا واضحا خلال الجمهوريات الثلاث، في السنوات الستين الأخيرة. الجمهورية الناصرية أرست الحكم المطلق، بقيادة زعيم جماهيري، أدت هزيمته العسكرية أمام المشروع الصهيوني المسنود غربيا، إلى انكفاء مشروعه القومي الوحدوي.

الجمهورية الثانية تحكمت بها غريزة صاحبها السياسية التي نجحت في تحقيق نصف نصر في حرب أكتوبر. لكن نصف الهزيمة فرض على هذه الجمهورية وهم تقاسم النفوذ في المنطقة، عبر الصلح والتحالف مع إسرائيل. وهم تبدد بغريزة الرهان على المرجعية الدينية الإخوانية وانشقاقاتها المتشددة. الوهم والرهان الخاطئان أديا إلى الانفصال عن العرب. ثم إلى مأسوية مصرع السادات نفسه.

وهكذا، دخلت الجمهورية الثالثة المسرح السياسي، بالمصادفة المفاجئة. وعلى غير موعد. وبلا استئذان. استعاد مبارك العرب، بحياد غير مشارك في رسم سياساتهم وتوجهاتهم. جمود المبادرة المصرية في منطقة نفوذها، عرض المشرق العربي إلى اختراق إقليمي إيراني. ثم تركي. وما لبث أن طبع هذا الجمود حركة مبارك في الداخل، بخلل إداري واقتصادي مروع. وبشهوة غامضة في توريث يتناقض مع فلسفة ومبادئ الجمهورية، هذا التناقض القاتل الذي تعانيه اليوم الجمهورية الوراثية السورية.

هل الجمهورية المصرية الرابعة ستكون عسكرية بلباس مدني، كما كانت الجمهوريات الثلاث السابقة؟ قراءة تطورات الانتفاضة المصرية توحي بأنها ستكون أقرب إلى جمهورية مدنية ذات مرجعية دينية. نعم، كانت المؤسسة العسكرية المصرية المرجعية الوحيدة القادرة على حكم المرحلة الانتقالية، بعد انفراط سلطة الحزب الوطني الحاكم، وعجز التنظيمات الشبابية عن تشكيل وحدة حزبية تتولى السلطة.

غير أن عسكر مصر وقعوا أسرى الشعارات الدينية، وبددت أخطاء التجربة الانتقالية بعض الثقة في المجلس العسكري الحاكم. ثم أضعفه تردده أمام القوى الدينية التي خطفت المبادرة والمناورة من القوى الشبابية.

بات الإخوان من الثقة بأنفسهم، بحيث يأملون في الحصول على 40 إلى 50 في المائة من مقاعد مجلس النواب المقبل. وقد ترتفع نسبة «أسلمة» السلطة التشريعية إلى 60 في المائة، إذا فازت الأحزاب السلفية المنسحبة من «التحالف الديمقراطي» الإخواني، بعشرين في المائة من المقاعد.

المشير حسين طنطاوي يقول إن المجلس العسكري يريد «برلمانا متوازنا ونظاما مدنيا». التصور العسكري لبرلمان متوازن سيتحقق، إذا ما تمكنت القوى الشبابية والليبرالية واليسارية، من الفوز بـ40 في المائة الباقية من المقاعد النيابية.

غير أن من المشكوك فيه أن تكون الجمهورية الرابعة مدنية وديمقراطية. المجلس العسكري لم يستطع فرض «أحكام مدنية» سلفا، يتقيد بها مشروع الدستور الجديد. والمتوقع أن تنبثق عن المجلس النيابي «المتأسلم» لجنة تضع دستورا ذا مرجعية دينية، كما يخطط الإخوان والسلفيون، على الرغم من انفراط عقد تحالف الطرفين، خلال المعركة الانتخابية.

بحكم الأغلبية العددية، لن تستطيع القوى السياسية والشبابية «المهزومة» في الانتخابات تغيير الطابع الديني للدستور. لكن هل تقبل المؤسسة العسكرية بنظام ديني إخواني/ سلفي؟ الجواب يتوقف على مدى تضامن أعضاء المجلس العسكري، ضد محاولات الاختراق الإخوانية والسلفية له وللجيش، بعد الانتخابات.

هناك شكوك ليبرالية/ شبابية في وجود صفقة ما، بين الإخوان والعسكر. التصور المعارض للصفقة يفترض إضفاء الإخوان لمسات تجميلية ديمقراطية على الدستور. وإذا لم يعتبرها العسكر ضامنة لقيام نظام مدني، فلعل الإخوان مستعدون لدعم ترشيح وترئيس عسكري، بثياب مدنية، للجمهورية الرابعة.

رئيس عسكري لنظام مدني/ إخواني ذي مرجعية دينية؟! ربما يقبل المجلس العسكري. إذا لم يقبل، فليس أمامه سوى المغامرة بالإطاحة بالجمهورية الرابعة، في انقلاب عسكري.

انقلاب عسكري في عصر عولمة ديمقراطية تجتاح ديكتاتوريات العالم النامي؟! وفي زمن تأديب النظام التركي ذي الهامش الإسلامي، للعلمانية العسكرية الكمالية، ووضع العسكر، تحت إمرة المشير «المدني» رجب طيب أردوغان؟!

انقلاب عسكري مصري احتمال صعب، لا سيما إذا أرضى الإخوان الحاكمون إسرائيل والعرب، بالمحافظة على صلح الكامب الساداتي، وقبلوا حقا بمبدأ تداول السلطة، عبر صندوق الاقتراع، ولم يمسوا بأذى الحريات الشخصية والاجتماعية، بما في ذلك ضمان المساواة بين الأقباط والمسلمين، في الحقوق والواجبات.

باستثناء إقدام عسكريين (سلفيين) صغار الرتب على اغتيال السادات، ومزاحمة المشير عامر وشلته العسكرية لسلطة ناصر المدنية، فقد أثبت عسكر مصر أنهم مؤسسة عسكرية. منضبطة. ومحترفة. ومحايدة سياسيا، طوال 60 سنة هي عمر الجمهوريات العسكرية الثلاث.

ولعل هذا الانضباط (المضاد للانقلاب) سينسحب أيضا باستمرار على المجلس العسكري، سواء في تشكيله الحالي أو المستقبلي، ذلك أن الضباط الكبار ومتوسطي الرتب تم انتقاؤهم، بعناية الجمهوريات الثلاث، من خارج المعسكر الإخواني والسلفي. بصرف النظر عن المشاعر الدينية العميقة التي يتميز بها المصريون عموما، مدنيين أو عسكريين.

الدهاء السياسي الإخواني قد يصل إلى الامتناع عن ترشيح رئيس إخواني. نظام الجمهورية الرابعة سيكون نيابيا، بمعنى أن السلطة يملكها رئيس الحكومة (الإخواني)، فيما رئيس الجمهورية سيكون رئيسا رمزيا (تخلصا من عقدة ناصر. السادات. مبارك). مهمته أن يكون وسيطا وحكما، في اللعبة السياسية. هذه الصفة الرمزية للرئيس المقبل ستكون أيضا من أسباب امتناع العسكر عن القيام بانقلاب عسكري.

إذا امتلكت القوى السياسية المصرية غير الدينية مَلَكَة الصبر على نظام إخواني، فالمرجح أن يكون البرلمان الثاني أكثر انفتاحا، وإلحاحا على قيام دولة مصرية حداثية، ونظام ديمقراطي حقيقي.

كل ذلك يعتمد على الأخطاء التي سيرتكبها الإخوان، إذا ما عجزوا عن مصالحة الدين مع الديمقراطية، ومع العصر، وإذا ما عجزت رأسماليتهم عن تحريك اقتصاد بالغ التعقيد، وغارق بالديون. ولا شك أن رجال أعمالهم الطامحين إلى تحقيق مكاسب ربحية أكبر، سيقفون عقبة أمام تحسين المستوى المعيشي لـ85 مليون مصري كانوا يأملون بجنة على الأرض، بعدما تسلم مفاتيحها حراس و«ملائكة» من الإخوان.