جحا العربي

TT

كثيرا ما نتهم بعض أصحاب الفكر المستقل بالهروب إلى الهزل والتهريج، والتظاهر بالخبل وقصر العقل أمام ضغوط المجتمع والسلطة. وهو ما عبر عنه المتنبي حين قال:

ولما رأيت الجهل في الناس فاشيا

تجاهلت حتى قيل إني جاهل

هكذا ظهرت الشخصية الهزلية المعروفة بشخصية الأحمق والمهرج (clown) والمغفل (fool). ولكننا نجد شكسبير يستعملهما للتعبير عن فكره في انتقاد الدولة في شخصية الملك، حتى ليمكننا القول إن هذا المغفل هو المغفل العاقل، وهذا الأحمق هو الأحمق الحكيم.

ظهر مثل ذلك في فولكلور شعوب الشرق الأوسط، وعلى رأسها جحا. الشائع أن جحا رجل تركي عاش في مدينة قونية. هكذا يرسمونه بهيئة رجل عثماني لابسا السروال التركي والطربوش. بيد أن الأبحاث أظهرت أن الشخصية الأصلية لجحا كان رجلا عربيا من فزارة معروفا باسم أبي غصن دجين بن ثابت الفزاري، ولد وعاش في الكوفة في القرن السابع الميلادي. كانت أمه خادمة أو أمة لأنس بن مالك. قال الرواة إنه كانت تغلب عليه الغفلة والبساطة والسماحة وصفاء السريرة، ولقب بجحا اشتقاقا من المصدر جحا يجحو جحوا، بمعنى رمى. وقد قالت العرب حيا الله جحوتك، أي رميتك أو وجهك. ويقول صاحب محيط المحيط إن جحا تعني أيضا كب الماء على الأرض، وربما هذا هو المعنى المقصود في إطلاق الكلام على علاته.

وقد جاء ذكره في كثير من المصادر، قال عنه الشيرازي إنه كان ظريفا وما أسند إليه كان مكذوبا عليه. وقال ابن الجوزي إنه كان على جانب من الفطنة والذكاء ولكن غلب عليه التغفيل وأسند إليه من عاداه حكايات موضوعة. وعلى أي حال، فهو غير جحا الرومي المعروف أيضا بالملا نصر الدين خوجه، الذي عاش في بلاد الأناضول في العهد العثماني. وربما نقلت بعض حكايات جحا العربي إلى جحا الرومي، مما هو شائع في آداب الفولكلور عالميا، بيد أن مما أسند إلى جحا الفزاري حكايات يمكن تقفي آثارها إلى المحيط العربي.. قالوا إن عيسى بن موسى الهاشمي رآه يحفر في موضع قريب من الكوفة، فسأله: ما لك يا أبا الغصن؟ فقال دفنت في هذه الصحراء دراهم ولست أهتدي لمكانها. فقال له عيسى كان يجب أن تضع علامة عليها. فقال قد فعلت.. سحابة في السماء كانت تظلها. ومن حمقه أيضا أنه رأى جثة ميت في الطريق فجرها وألقى بها في بئر. رأى ذلك والده فأخرج الجثة ودفنها ثم ألقى في مكانها كبشا ميتا. ولما رأى القوم يبحثون عن قتيلهم قال تعالوا أدلكم عليه. فجاء بهم للبئر ونزل فيه.. رأى الكبش فسألهم هل كان لصاحبكم قرن؟

وروي أن أبا مسلم صاحب الدولة وفد إلى الكوفة، فدعا القوم حوله ليأتوه بجحا.. أرسل يقطين من يأتي به، وعندما جاء لم يجد في المجلس غير أبي مسلم ويقطين فقط، فالتفت إلى يقطين وسأله: يا يقطين، أيكما أبو مسلم؟