أزمة سوريا تضع المنطقة على صفيح ساخن!

TT

عشية دخول الأزمة في سوريا شهرها الثامن، تبدو الأزمة مرشحة أكثر من أي وقت مضى للتأثير في محيطها الإقليمي، بل بعض التأثيرات المباشرة وغير المباشرة، صارت واضحة، وهي آخذة في التفاعل ليس في تجلياتها السياسية/ الاقتصادية والاجتماعية، بل أيضا في تجلياتها الأمنية/ العسكرية في تزايد قعقعة السلاح، وعبر عمليات عسكرية اتخذت من العراق وتركيا ولبنان ميادين لها، إضافة لما يحصل في سوريا وتداعياته.

في الجوانب السياسية والاقتصادية الاجتماعية لما أفرزته الأزمة السورية على محيطها الإقليمي، يمكن ملاحظة الترديات في العلاقات السورية – التركية، التي كانت حققت ازدهارا ملموسا في السنوات الأخيرة، قبل أن تصيبه تداعيات الأزمة بالعطب الشديد، فتترك فيه افتراقا سياسيا بين موقفين متناقضين، يسير كل منهما نحو تصادم لا يستبعد منه الصدام العسكري، كما أدت الأزمة إلى إغلاقات اقتصادية لا تطال العلاقات السورية – التركية في مجال التبادل التجاري والمشاريع والاستثمارات المشتركة فقط، وإنما تترك تأثيرات على حركة المرور التركي الاقتصادي والمالي إلى بلدان العمق العربي في الخليج ولبنان والأردن، ومنها باتجاه تركيا، مما يترك آثارا على البنى والحراكات الاجتماعية في بلدان الجوار السوري.

ولا يقل أهمية عن التأثيرات السابقة للأزمة السورية على محيطها، تأثيراتها على إعادة ترتيب خريطة التحالفات في المنطقة. ففي الوقت الذي كانت فيه سوريا تمثل الركن المشترك في العلاقة بين إيران وتركيا نتيجة علاقاتها القوية بالجانبين، تم قطع التواصل الإيراني - التركي، وبدء تبلور قوتي تجاذب في إطار علاقاتهما العربية: إيران وتحالفها مع سوريا والعراق ولبنان المحكوم من تحالف يقوده حزب الله، وتركيا التي تمثل بعلاقاتها مع أغلبية البلدان العربية ولا سيما مع مصر والسعودية القوة الأخرى، ومن الواضح، أن قوتي التجاذب تتجهان نحو تصادم لا يستبعد فيه الصدام العسكري مدعوما من إرادات ومصالح دولية ومتقاطعا معها.

وعلى الرغم من أن إسرائيل تبدو كأنها خارج سياق التأثيرات التي تتركها الأزمة السورية في المحيط الإقليمي، فإن ذلك المظهر، ليس أكثر من مظهر خادع، إذ هي مستفيدة من احتدام العلاقات الإقليمية في جوانبها السياسية/ الاقتصادية والاجتماعية، ومن احتمال انزلاق المنطقة وبعض بلدانها إلى أتون الصراعات العنيفة سواء كانت حروبا بين تحالفات ودول، أو جاءت في سياق حروب وصدامات داخلية.

غير أنه وخارج الإطار العام لما تخلفه الأزمة السورية من تداعيات إقليمية في الجوانب السياسية/ الاقتصادية والاجتماعية، فإن من المهم التوقف عند التداعيات الأمنية/ العسكرية، وفي هذا الجانب لا بد من ملاحظة أن ذلك التطور الخطر يتخذ من سوريا مركزا لانطلاقه، طبقا لما تشير إليه الوقائع. ومن حيث المبدأ تتوالى الأحاديث اللبنانية عن عمليات أمنية/ عسكرية سورية في لبنان ولا سيما في المناطق المجاورة للحدود بين البلدين، التي تستهدف منشقين ومعارضين سوريين اتخذوا من لبنان ملاذا آمنا، وهو وضع يتقارب بدرجة أقل مع كلام تركي عن سلوكيات سورية تستهدف منشقين ونازحين سوريين في الجانب التركي من الحدود مع سوريا.

وبالتزامن مع تلك التطورات، ظهرت اتهامات تركية باتجاه سوريا وإسرائيل، مع تركيز خاص على سوريا، بأنها المسؤولة عن العمليات العسكرية الأخيرة لعناصر حزب العمال الكردستاني (p.k.k) التي استهدفت أهدافا عسكرية ومدنية، أحيت سنوات الصراع بين الدولة التركية وأكرادها، وقد استمرت بين مطلع ثمانينات القرن الماضي وأواخر التسعينات، وكان لسوريا فيها دور معروف وتأثير كبير في دعم (p.k.k)، قبل أن تقوم سوريا بتسليم قادة ذلك الحزب وبدء مسيرة تعاون مع الأتراك، وأدت عمليات (p.k.k) في تركيا إلى استعادة وتنشيط روح العسكرية التركية بعد أن شهدت تراجعا ملحوظا في السنوات الأخيرة، واندفعت قوات كبيرة باتجاه منطقة شمال العراق للقضاء على الوجود المسلح لعناصر (p.k.k)، ولا سيما منطقة زاب بشمال العراق حيث توجد قواعد للحزب، ولا شك في أن هذه العمليات ستشكل مدخلا لتصعيد المشاكل بين تركيا وجوارها سواء مع أكراد العراق وحكومتهم في الشمال أو مع حكومة بغداد.

لكن الشق الأهم في الأثر الأمني/ العسكري للأزمة في سورية على تركيا تمثله احتمالات تطور الموقف التركي حيال الأزمة السورية. فإضافة إلى مخاوف التهاب المناطق الحدودية بين البلدين التي تمتد على طول يقارب الألف كيلومتر وأغلب سكانها من الأكراد، فإن القادة الأتراك معنيون بالتجاوب مع محيطهم الشعبي الذي يؤيد مطالب وأهداف الشارع السوري في ثورته على النظام، والأتراك في الأبعد من ذلك معنيون بالموقف الدولي الذي تميل أغلبيته إلى مساندة الحراك الشعبي ومطالبه، والمحصلة العامة، تتمثل في توافق المخاوف مع المصالح في المستويين الداخلي والخارجي، وتدفع تركيا إلى تجذير موقفها وتشديده، جاء في إطاره سلسلة إجراءات منها فرض حصار على مرور الأسلحة إلى سوريا، وعقوبات اقتصادية منها وقف تبادلات وتنفيذ عقود، والأهم أن العقوبات دخلت حيز التنفيذ العملي.

وقد يكون الأخطر في تداعيات الأزمة على تركيا، هو دور محتمل، إذا تقرر في وقت لاحق الأخذ بالخيار العسكري الدولي لمعالجة الأزمة السورية سواء من خلال قرار لمجلس الأمن تحت البند السابع، أو بقرار من خارج الشرعية الدولية، وتركيا هي الدولة المحتملة لتكون بوابة ذلك التدخل ليس بسبب موقفها من الأزمة، ولا بسبب كونها العضو المجاور الوحيد لسوريا من دول «الناتو»، وإنما لأنها من أقوى دول الجوار ولديها تجربة في ممارسة قوة الإكراه على سوريا. في ظل هذه المعطيات، فإن تركيا يمكن أن تذهب إلى أبعد البعيد في تأثرها بالأزمة السورية الراهنة، تلك الأزمة التي جعلت المنطقة من إيران شرقا وحتى ليبيا غربا، ومن تركيا في الشمال إلى حدود بحر العرب في الجنوب أمام عواصف سياسية/ اقتصادية واجتماعية، وصولا إلى احتمال عواصف أمنية/ عسكرية، تبدو مؤشرات تسخينها اليوم حاضرة وواضحة بصورة لا التباس فيها.