«إخوان» الأردن يتحدثون عن الإصلاح وعيونهم على التغيير

TT

مع أن الحقائق قد أكدت غير هذا، ومع أن المفترض أنهم يحرصون على الابتعاد عن هذا الادعاء الذي سيكون مكلفا لهم ولغيرهم، فإن «الإخوان المسلمين» كما كانوا في بداية انفجار ثورات «الربيع العربي»، مستمرون الآن في إعطاء انطباع يحرصون على إيصاله بصورة خاصة إلى الغرب والولايات المتحدة بأنهم وراء كل هذا الـ«تسونامي» الذي يجتاح هذه المنطقة، وأن كل هذه الثورات هي ثوراتهم، وأنه لا يشاركهم فيها أي تنظيم وأي منظمة، وهذا ينطبق أيضا على ما يجري في سوريا التي من المعروف أنه تم اقتلاعهم منها مبكرا على يد هذا النظام الاستبدادي، فباتوا يشكلون قوة خارجية منذ عام 1982 مع وجود لا يمكن إنكاره رغم تواضعه بالنسبة للداخل الذي يعيش الآن حالة ثورية غير مسبوقة حتى إبان الاستعمار الفرنسي.

ويسود إحساس بأن حرص «الإخوان المسلمين» على تعزيز انطباع أنهم وراء كل هذه الثورات وأنهم هم الذين فجروها القصد منه إقناع الغرب، والولايات المتحدة تحديدا، بأنهم هم وليس غيرهم، أداة التغيير والإصلاح في هذه المنطقة، وأنهم هم وليس غيرهم الذين يجب اعتبارهم فرس الرهان لإنجاز هذا التغيير الذي لا شك في أن أوروبا وأميركا قد دعمتاه منذ البداية، كما اتضح بشكل خاص في مصر وفي ما كان يسمى «الجماهيرية الليبية العظمى».

ولعل ما جعل «الإخوان المسلمين» يزدادون تمسكا بهذا الموقف أنهم قرأوا كما قرأ غيرهم، تلك التقارير المتلاحقة التي واصلت الحديث عن أن الغرب الأوروبي ومعه الولايات المتحدة باتت لديه قناعة، بعد نجاح تجربة حزب العدالة والتنمية بقيادة هذا الشاب المندفع والمتدفق حماسا، رجب طيب أردوغان، بأن الإسلام المعتدل هو مستقبل هذه المنطقة، وأن التغيير والإصلاح المطلوبين يجب أن يكونا على هذا الأساس، وكل هذا مع أن «إخوان» مصر تحديدا قد أسمعوا رئيس الوزراء التركي خلال زيارته الأخيرة للقاهرة، حيث روج لضرورة «علمانية» الدولة حتى وإن كان الذين يحكمون غير علمانيين، كلاما لم يسمعوه حتى لأعدائهم.

وحقيقة أن هذا التحول الذي طرأ على مواقف «الإخوان المسلمين» بتشجيع معلن إن ليس من الغرب والولايات المتحدة فمن دوائر معنية في أوروبا وأميركا، قد دفع هؤلاء إلى إعادة النظر في استراتيجيتهم القديمة التي عنوانها «المشاركة والمغالبة»، والتي تسمح وفقا للباطنية السياسية المعروفة التي يسميها أتباع المذهب الشيعي «التقية» بمرحلة انتقالية لا ضير خلالها في دخول حكومات الأنظمة القائمة ومشاركة حتى الأحزاب اليسارية والعلمانية في الأنشطة النقابية والتحركات الشعبية العامة، وذلك إلى أن تحين اللحظة التي تتوفر فيها إمكانية «المغالبة» فيصبح العمل عند ذلك مباشرا للوصول إلى الحكم والإمساك بالسلطة.

إن هذا بالضبط هو ما حصل بالنسبة للعلاقة بين «إخوان» الأردن والدولة الأردنية، فهم بقوا يحرصون على التقرب من الحكومات المتعاقبة وبقوا يشعرون النظام الأردني منذ عام 1957 وحتى اهتزاز المعادلات في منتصف تسعينات القرن الماضي بأنهم حلفاؤه في السراء والضراء، وأنهم يشكلون احتياطيه الاستراتيجي ضد الحركات والأحزاب القومية واليسارية، وأيضا ضد منظمة التحرير والدول التي يعتبرونها اشتراكية ومتحالفة مع المعسكر الشرقي يوم أن كان هناك معسكران أحدهما اشتراكي شرقي، والثاني رأسمالي غربي تمثله الولايات المتحدة الأميركية.

لكنهم عندما شعروا بأن الغرب المعجب بالتجربة التركية، في ظل حكم رجب طيب أردوغان وحزبه حزب العدالة والتنمية، بات مقتنعا بأنه بالإمكان أن يكونوا فرس رهانه لإنجاز «الإصلاح والتغيير» المطلوبين في الشرق الأوسط، بدأ هؤلاء بالابتعاد عن حلفائهم التاريخيين والتخلي عن «المشاركة» لحساب «المغالبة»، والدليل هو أنهم بعد أن شاركوا في الحكومة الأردنية التي شكلها مضر بدران في بدايات تسعينات القرن الماضي وبعد أن شاركوا في انتخابات 2007 البرلمانية وفي آخر انتخابات بلدية بدأوا يتحللون من تحالفهم التاريخي السابق مع الدولة الأردنية شيئا فشيئا إلى حد أنهم وصلوا إلى التهديد باللجوء إلى العصيان المدني والمطالبة المدعومة بضغط المظاهرات الأسبوعية بتغيير تركيبة الدولة كلها وإجراء تعديلات دستورية مفرطة في المس بصلاحية الملك وعلى نحو إن هو تم فإنه سيغرق البلاد، وبخاصة في هذه المرحلة في ما سماه جورج بوش (الابن) الفوضى الخلاقة، والتي هي لا خلاقة ولا يحزنون!!

لقد طالت التعديلات الدستورية الأردنية الأخيرة أمورا جوهرية بعضها يتعلق ببعض صلاحيات الملك، وبعضها الآخر يتعلق بمحاكمة الوزراء على ما ينسب إليهم من جرائم ناتجة عن تأدية وظائفهم أمام المحاكم النظامية وفقا لأحكام القوانين السارية، وكل هذا بالإضافة إلى إنشاء محكمة دستورية «تعتبر هيئة قضائية مستقلة قائمة بذاتها» تؤلف من تسعة أعضاء من كبار القضاة، وأيضا إنشاء هيئة قضائية مستقلة تشرف على العملية الانتخابية النيابية وتديرها في كل المراحل، وهذا مع الإشارة إلى أن أحد التعديلات التي غدت سارية المفعول ينص، وهذا يمس كذلك ببعض الصلاحيات الدستورية للملك، على أنه: «إذا حل مجلس النواب لسبب ما فلا يجوز حل المجلس الجديد للسبب نفسه»، كما ينص على: «أن الحكومة التي يحل مجلس النواب في عهدها تستقيل خلال أسبوع من تاريخ الحل، ولا يجوز تكليف رئيسها بتشكيل الحكومة التي تليها».

لقد أشعرت التوجهات الغربية والأميركية تجاه هذه المنطقة في ضوء تجربة حزب العدالة والتنمية التركي بقيادة رجب طيب أردوغان «الإخوان المسلمين» عامة بقوة مبالغ فيها كثيرا، كما أشعرتهم موجات هذا الـ«تسونامي» العربي، والتي يدعون أنهم هم أصحابها، بأن عليهم أن يلجأوا إلى ما يسمونه «مفاصلة» بأقصى حدودها، ولذلك فقد خرج «إخوان» الأردن من خنادق الموالاة والتحالف مع النظام الأردني الذي كان أمن لهم حماية لم يحصل عليها إخوتهم ولا في أي دولة عربية أخرى، إلى خنادق العداء و«المغالبة» والرفض القاطع والمطلق للمشاركة في الانتخابات النيابية والبلدية، وأيضا رفض العرض السخي الذي تقدم به إليهم رئيس الحكومة السابقة معروف البخيت بإشراكهم في حكومته بستة وزراء، وهذا هو ما واجهوا به عرضا سخيا مماثلا من قبل رئيس الوزراء الجديد عون الخصاونة الذي ربما لعدم معرفته الوثيقة بهم، نظرا لوجوده خارج البلاد لأكثر من عشرة أعوام عضوا في المحكمة الدولية في «لاهاي»، جاءهم مندفعا لاعتقاده أنهم ما زالوا على ما كانوا عليه قبل أن يطووا صفحة «المشاركة» ويفتحوا صفحة «المغالبة».

وهنا ونحن بصدد الحديث عن هذه المسألة المهمة فإنه لا بد من الإشارة إلى أن البعض هنا في الأردن يرى أن «هؤلاء» يصرون على سلبيات مواقفهم، وأنهم يرفضون المشاركة في الانتخابات البلدية والبرلمانية، رغم أن هناك توجهات رسمية جدية لإعداد قوانين متطورة فعلا على هذا الصعيد؛ لأنهم فقدوا الجزء الأكبر من قاعدتهم الشعبية، ولأنهم باتوا لا يستطيعون حشد مظاهرة من بضعة آلاف إلا بشق الأنفس، ولأن المشاركة في أي انتخابات ستكون أكبر تحد لهم؛ لأنها ستكشف أوراقهم على حقيقتها، ولأن الاعتصام بالانكفاء والرفض كما يظنون سيبقي على هيبتهم السابقة مع أنها في حقيقة الأمر أصبحت سرابية، بل وكرتونية.

لكن ومع أن هذا التقدير ليس فيه بعض الصحة فقط، وإنما الكثير من الصحة، فإن الشرط التعجيزي الذي واجه به المراقب العام الدكتور همام سعيد طيبة واندفاعة رئيس الوزراء الجديد عون الخصاونة، حيث قال: «إن الحركة لن تشارك إلا بحكومة برلمانية»، يدل على أن «الإخوان المسلمين» وقد شربوا حليب السباع، بعدما شعروا برغبة الأميركيين والأوروبيين بأن يكونوا، هم وليس غيرهم، موضع الرهان لتحقيق هدف الشرق الأوسط الجديد الذي تحدثت عنه إدارات أميركية سابقة، ما عادوا يلتزمون بالمشاركة لا في الانتخابات وأي انتخابات، ولا في الحكومات وأي حكومات، وأنهم كتعبير عن أنهم جديرون بهذا الرهان باتوا يتخذون هذه المواقف الانكفائية والعدمية، بينما عيونهم مسلطة ليس على إصلاح النظام كما يقولون، بل على تغييره.